خالد بن يزيد
وهذا خالد بن يزيد مولى المهالبة «5» ، هو خالويه المكدي «6» ، وكان فد بلغ في البخل والتكدية، وفي كثرة المال، المبالغ التي لم يبلغها أحد؛ وكان ينزل في شق بني تميم «1» ، فلم يعرفوه. فوقف عليه ذات يوم سائل، وهو في مجلس من مجالسهم، فأدخل يده في الكيس ليخرج فلسا؛ وفلوس البصرة كبار، فغلط بدرهم بغلي «2» ، فلم يفطن حتى وضعه في يد السائل. فلما فطن استرده، وأعطاه الفلس. فقيل له: هذا لا نظنه يحل، وهو بعد بمثلك قبيح. قال: قبيح عندكم وأما أنا فإني لم أجمع هذا المال بعقولكم، فأفرقه بعقولكم. ليس هذا من مساكين الدراهم، هذا من مساكين الفلوس. والله ما أعرفه إلا بالفراسة «3» .
قالوا: وإنك لتعرف المكدين؟ قال: وكيف لا أعرفهم؟ وأنا كنت كاجار «4» في حداثة سني. ثم لم يبق في الأرض مخطراني «5» ، ولا مستعرض أقفية «6» ، ولا شحاذ ولا كاغاني ولا بانوان، ولا قرسي ولا عواء، ولا مشعب، ولا فلور، ولا مزيدي ولا إسطبل إلا وكان تحت يدي. ولقد أكلت الزكوري ثلاثين سنة؛ ولم يبق في الأرض كعبي ولا مكد، إلا وقد أخذت العرافة عليه، حتى خضع إلى إسحق قتال الحر «7» ، وبنجويه شعر الجمل، وعمرو القوقيل، وجعفر كردي كلك، وقرن أيره، وحمويه عين الفيل، وشهرام حمار أيوب، وسعدويه نائك أمه «8» . وإنما أراد بهذا أن يؤسهم من ماله، حين عرف حرصهم وجشعهم، وسوء جوارهم. وكان قاصا متكلما بليغا داهيا، وكان أبو سليمان الأعور، وأبو سعيد المدائني القاصان من غلمانه. وهو الذي قال لابنه عند موته:
«إني قد تركت لك ما تأكله إن حفظته، وما لا تأكله إن ضيعته.
ولما ورثتك من العرف الصالح، وأشهدتك من صواب التدبير، وعودتك من عيش المقتصدين، خير لك من هذا المال. ولو دفعت إليك آلة لحفظ المال عليك بكل حيلة، ثم لم يكن لك معين من نفسك، لما انتفعت بشيء من ذلك. بل يعود ذلك النهي كله إغراء لك، وذلك المنع تهجينا لطاعتك.
قد بلغت في البر منقطع التراب، وفي البحر أقصى مبلغ السفن.
فلا عليك ألا ترى ذا القرنين؛ ودع عنك مذاهب ابن شرية «1» ، فإنه لا يعرف إلا ظاهر الخبر. ولو رآني تميم الداري «2» ، لأخذ عني صفة الروم.
ولأنا أهدى من القطا، ومن دعيميص «3» ، ومن رافع المخش، «4» إني قد بت بالقفر مع الغول، وتزوجت السعلاة «5» ، وجاوبت الهاتف، ورغت «6» عن الجن الى الحن «7» ، واصطدت الشق «8» ، وجاوبت النسناس «9» ، وصحبني الرئي «10» ، وعرفت خدع الكاهن، وتدسيس العراف، وإلى ما. يذهب الخطاط والعياف، وما يقول أصحاب الأكتاف «1» ، وعرفت التنجيم والزجر، والطرق والفكر «2» .
إن هذا المال لم أجمعه من القصص والتكدية، ومن احتيال النهار، ومكابدة الليل»
. ولا يجمع مثله أبدا إلا من معاناة ركوب البحر، أو من عمل سلطان، أو من كيمياء الذهب والفضة، وقد عرفت الرأس «4» حق معرفته، وفهمت كسر الإكسير «5» على حقيقته. ولولا علمي بضيق صدرك، ولولا أن أكون سببا لتلف نفسك، لعلمتك الساعة الشيء الذي بلغ به قارون، وبه تبنكت خاتون «6» . والله ما يتسع صدرك عندي لسر صديق، فكيف ما لا يحتمله عزم، ولا يتسع له صدر. وخزن سر الحديث، وحبس كنوز الجواهر، أهون من خزن العلم. ولو كنت عندي مأمونا على نفسك، لأجريت الأرواح في الأجساد، وأنت تبصر، إذ كنت لا تفهمه بالوصف، ولا تحقه بالذكر. ولكني سألقي عليك علم الإدراك، وسبك الرخام، وصنعة الفسيفساء، وأسرار السيوف القلعية، وعقاقير السيوف اليمانية «7» ، وعمل الفرعوني، وصنعة التلطيف على وجهه، إن أقامني الله من صرعتي هذه.
ولست أرضاك، وإن كنت فوق البنين، ولا أثق بك، وإن كنت لا حقا بالآباء لأني لم أبالغ في محنتك. إني قد لا بست السلاطين والمساكين، وخدمت الخلفاء والمكدين، وخالطت النساك والفتاك «1» وعمرت السجون كما عمرت مجالس الذكر، وحلبت الدهر أشطره «2» وصادفت دهرا كثير الأعاجيب، فلولا أني دخلت من كل باب، وجريت مع كل ريح، وعرفت السراء والضراء «3» ، حتى مثلث لي التجارب عواقب الأمور، وقربتني من غوامض التدبير، لما أمكنني جمع ما أخلفه لك، ولا حفظ ما حبسته عليك، ولم أحمد نفسي على جمعه، كما حمدتها على حفظه، لأن بعض هذا المال لم أنله بالحزم والكيس «4» ، قد حفظته عليك من فتنة البناء، ومن فتنة النساء، ومن فتنة الثناء، ومن فتنة الرياء «5» ، ومن أيدي الوكلاء، فإنهم الداء العياء «6» .
ولست أوصيك بحفظه لفضل حبي لك، ولكن بفضل بغضي للقاضي. إن الله، عز وجل، لم يسلط القضاة على أموال الأولاد إلا عقوبة للأولاد، لأن أباه، إن كان غنيا قادرا، أحب أن يريه غناه وقدرته، وإن كان فقيرا عاجزا، أحب أن يستريح من شينه ومن حمل مؤونته، وإن كان خارجا من الحالين، أحب أن يستريح من مداراته، فلا هم شكروا من جمع لهم، وكفاهم، ووقاهم، وغرسهم، ولا هم صبروا على من أوجب الله حقه عليهم. والحق لا يوصف عاجله بالحلاوة، كما لا يوصف عاجل الباطل بالمرارة. فإن كنت منهم، فالقاضي لك، وإن لم تكن منهم فالله لك. فإن سلكت سبيلي صار مال غيرك وديعة عندك، وصرت الحافظ على غيرك. وإن خالفت سبيلي صار
مالك وديعة عند غيرك، وصار غيرك الحافظ عليك. وإنك يوم تطمع أن تضيع مالك، ويحفظه غيرك، لجشع الطمع، مخذول الأمل. احتال الآباء في حبس الأموال على أولادهم بالوقف، فاحتالت القضاة على أولادهم بالإستبحاث «1» ما أسرعهم الى إطلاق الحجر، وإلى إيناس الرشد، إذا أرداوا الشراء منهم. وأبطأهم عنهم، إذا أرداوا أن تكون أموالهم جائزة لصنائعهم.
يا ابن الخبيثة، إنك وإن كنت فوق أبناء هذا الزمان، فإن الكفاية قد مسختك، ومعرفتك بكثرة ما أخلف قد أفسدتك؛ وزاد في ذلك أن كنت بكرى، وعجزة أمك «2» .
أنا لو ذهب مالي لجلست قاصا، أو طفت في الآفاق، كما كنت، مكديا. اللحية وافرة بيضاء، والحلق جهيز طل، والسمت «3» حسن، والقبول علي واقع. إن سألت عيني الدمع أجابت، والقليل من رحمة الناس خير من المال الكثير، وصرت محتالا بالنهار، واستعملت صناعة الليل. أو خرجت قاطع طريق، أو صرت للقوم عينا ولهم مجهرا «4» . سل عني صعاليك الجبل «5» وزواقيل «6» الشام وزط الآجام «7» ، ورؤوس الأكراد، ومردة الأعراب، وفتاك نهربط «8» ، ولصوص القفص «9» ، وسل. عني القيقانية «1» والقطرية «2» ، وسل عني المتشبهة وذباحي الجزيرة «3» ، وكيف بطشي ساعة البطش، وكيف حيلتي ساعة الحيلة، وكيف أنا عند الجولة، وكيف ثبات جناني عند رؤية الطليعة، وكيف يقظتي إذا كنت ربيئة «4» ، وكيف كلامي عند السلطان إذا أخذت، وكيف صبري إذا جلدت، وكيف قلة ضجري إذا حبست، وكيف رسفاني في القيد إذا أثقلت. فكم من ديماس «5» قد نقبته، وكم من مطبق «6» قد أفضيته، وكم من سجن قد كابدته. لم تشهدني وكردويه الأقطع أيام سندان «7» ، ولا شهدتني في فتنة سرنديب «8» ، ولا رأيتني أيام حرب المولتان «9» سل عني الكتيفية والخربية والبلالية، وبقية أصحاب صخر ومصخر، وبقية أصحاب فاس وراس ومقلاس، ومن لقي أزهر أبا النقم. كان آخر من صادفني حمدويه أبو الأرطال. وأنا مجيب مردويه بن أبي فاطمة، وأنا خلفعت بني هانيء. وأنا أول من شرب الغربى حارا، والبزيل باردا؛ وأول من شرب بالعراق بالكبرة «10» ، وجعل القنقل «11» قرعة. وأول من ضرب «الشاهسبرم» «12» على ورق القرع، وأول من لعب باليرمع 1»