قصة الكندي:
حدثني عمرو بن نهيوي، قال:
كان الكندي لا يزال يقول للساكن، وربما قال للجار: إن في الدار إمرأة بها حمل، والوحمى «1» ربما أسقطت من ريح الطيبة. فإذا طبختم، فردوا شهوتها، ولو بغرفة أو لعقة، فان النفس يردها اليسير. فإن لم تفعل ذلك، بعد إعلامي إياك، فكفارتك «2» أن أسقطت غرة: عبد أو أمة «3» ، ألزمت ذلك نفسك أم أبيت» . قال: فكان ربما يوافي الى منزله من قصاع السكان «4» والجيران ما يكفيه الأيام، وكان أكثرهم يفطن ويتغافل.
وكان الكندي يقول لعياله: أنتم أحسن حالا من أرباب هذه الضياع.
إنما لكل بيت منهم لون واحد، وعندكم ألوان.
قال: وكنت أتغدى عنده يوما، إذ دخل عليه جار له. وكان الجار لي صديقا. فلم يعرض عليه الغداء. فاستحييت أنا منه فقلت: لو أصبت معنا مما نأكل. قال: قد، والله، فعلت. قال الكندي: ما بعد الله شيء. قال: فكتفه والله، يا أبا عثمان، كتفا لا يستطيع معه قبضا ولا بسطا، وتركه ولو أكل لشهد عليه بالكفر، ولكان عنده قد جعل مع الله شيئا.
قال عمرو: بينا أنا، ذات يوم، عنده إذ سمع صوت انقلاب جرة من الدار الأخرى، فصاح: أي قصاف! فقال، مجيبة له: بئر وحياتك! فكانت الجارية في الذكاء، أكثر منه في الإستقصاء. قال معبد: نزلنا دار الكندي أكثر من سنة، نروج له الكراء، ونقضي له الحوائج، ونفي له بالشرط. قلت: قد فهمت ترويج الكراء، وقضاء الحوائج. فما معنى الوفاء بالشرط؟ قال: في شرطه على السكان أن يكون له روث الدابة «1» ، وبعر الشاة ونشوار «2» العلوفة، وألا يلقوا عظما، ولا يخرجوا كساحة «3» . وأن يكون له نوى التمر، وقشور الرمان، والغرفة من كل قدر تطبخ للحبلى في بيته. وكان في ذلك يتنزل عليهم؛ فكانوا لطيبه وإفراط بخله، وحسن حديثه، يحتملون ذلك.
قال معبد: فبينا أنا كذلك، إذ قدم ابن عم لي ومعه إبن له، وإذا رقعة منه قد جاءتني: «إن كان مقام هذين القادمين ليلة أو ليلتين، احتملنا ذلك. وإن كان إطماع السكان في الليلة الواحدة، يجر علينا الطمع في الليالي الكثيرة» . فكتبت إليه: «ليس مقامهما عندنا إلا شهرا أو نحوه» . فكتب إلي: «إن دارك بثلاثين درهما، وأنتم ستة، لكل رأس خمسة، فإذا قد زدت رجلين، فلا بد من زيادة خمستين. فالدار عليك من يومك هذا بأربعين» . فكتبت إليه: «وما يضرك من مقامهما، وثقل أبدانهما على الأرض التي تحمل الجبال، وثقل مؤونتهما علي دونك؟ فاكتب إلي بعذرك لأعرفه» . ولم أدر أني أهجم على ما هجمت، وإني أقع منه فيما وقعت، فكتب إلي:
«الخصال «4» التي تدعو إلى ذلك كثيرة، وهي قائمة معروفة من ذلك سرعة امتلاء البالوعة، وما في تنقيتها من شدة المؤنة، ومن ذلك أن الإقدام إذا كثرت، كثر المشي على ظهور السطوح المطينة، وعلى أرض البيوت المجصصة، والصعود على الدرج الكثيرة. فينقشر لذلك الطين وينقلع الجص، وينكسر العتب. مع إنثناء الأجذاع لكثرة الوطء، وتكسرها لفرط الثقل. وإذا كثر الدخول والخروج والإغلاق والإقفال وجذب الأقفال، تهشمت الأبواب وتقلعت الرزات «1» وإذا كثر الصبيان، وتضاعف البوش «2» نزعت مسامير الأبواب، وقلعت كل ضبة «3» ، ونزعت كل رزة، وكسرت كل حوزة «4» ، حفر فيها آبار الزدو «5» ، وهشموا بلاطها بالمداحي «6» . هذا مع تخريب الحيطان بالأوتاد وخشب الرفوف.
وإذا كثر العيال والزوار، والضيفان والندماء، احتيج من صب الماء واتخاذ الحببة «7» القاطرة، والجرار الراشحة، إلى أضعاف ما كانوا عليه.
فكم من حائط قد تأكل أسفله، وتناثر أعلاه، واسترخى أساسه، وتداعى بنيانه، من قطر حب ورشح جرة، ومن فضل ماء البئر، ومن سوء التدبير. وعلى قدر كثرتهم يحتاجون من الخبيز والطبيخ ومن الوقود والتسخين. والنار لا تبقي ولا تذر. وإنما الدور حطب لها. وكل شيء فيها من متاع فهو أكل لها. فكم من حريق قد أتى على أصل الغلة، فكلفتم أهلها أغلظ النفقة. وربما كان ذلك عند غاية العسرة، وشدة الحال. وربما تعدت تلك الجناية الى دور الجيران، والى مجاورة الأبدان والأموال. فلو ترك الناس حينئذ رب الدار وقدر بليته ومقادر مصيبته، لكان عسى ذلك أن يكون محتملا. ولكنهم يتشاءمون به، ولا يزالون يستثقلون ذكره، ويكثرون من لائمته وتعنيفه. نعم ثم يتخذون المطابخ في العلالي على ظهور السطوح، وإن كان في أرض الدار فضل وفي صحنها متسع مع ما في ذلك من الخطار بالأنفس «1» ، والتغرير بالأموال، وتعرض الحرم ليلة الحريق لأهل الفساد، وهجومهم مع ذلك على سر مكتوم، وخبيء مستور. من ضيف مستخف، ورب دار متوار، ومن شراب مكروه، ومن كتاب متهم، ومن مال جم أريد دفنه، فأعجل الحريق أهله عن ذلك فيه، ومن حالات كثيرة، وأمور لا يحب الناس أن يعرفوا بها ثم لا ينصبون التنانير «2» ، ولا يمكنون للقدور، إلا على متن السطح، حيث ليس بينها وبين القصب والخشب إلا الطين الرقيق والشيء لا يقي. هذا مع خفة المؤونة في إحكامها وأمن القلوب من المتالف بسببها. فإن كنتم تقدمون على ذلك منا ومنكم وأنتم ذاكرون، فهذا عجب. وإن كنتم لم تحفلوا بما عليكم في أموالنا، ونسيتم ما عليكم في أموالكم، فهذا أعجب.
ثم إن كثيرا منكم يدافع بالكراء، ويماطل بالأداء. حتى إذا اجتمعت أشهر عليه، فر وخلى أربابها جياعا، يتندمون على ما كان من حسن تقاضيهم وإحسانهم. فكان جزاؤهم وشكرهم اقتطاع حقوقهم، والذهاب بأقواتهم. ويسكنها الساكن حين يسكنها، وقد كسحناها ونظفناها، لتحسن في عين المستأجر، وليرغب فيها الناظر. فإذا خرج، ترك فيها مزبلة وخرابا، لا تصلحه إلا النفقة الموجعة، ثم لا يدع مترسا «3» إلا سرقه، ولا سلما إلا حمله، ولا نقضا إلا أخذه، ولا برادة إلا مضى بها معه، ويدع دق الثوب، والدق في الهاون والمنحاز «4» ،