| قصص الأنبياء قصة موسى عليه السلام | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: قصص الأنبياء قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 4:36 pm | |
| ﴿ (56) ذكر قصة موسى الكليم ، عليه الصلاة والسلام (1) ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
وهو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، عليهم السلام ، قال الله تعالى : واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا [ مريم 51 - 53 ] . ذكره بالرسالة والنبوة والإخلاص والتكليم والتقريب ، ومن عليه بأن جعل أخاه هارون نبيا وقد ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة متفرقة من القرآن ، وذكر قصته في مواضع متعددة مبسوطة ، ومتوسطة ، ومختصرة ، وقد تكلمنا على ذلك كله في مواضعه من " التفسير " وسنورد سيرته هاهنا ، من ابتدائها إلى آخرها من الكتاب والسنة ، وما ورد في الآثار المنقولة من الإسرائيليات ، التي ذكرها السلف وغيرهم ، إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان .
قال الله تعالى : طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون [ القصص 1 - 6 ] . يذكر تعالى ملخص القصة ثم يبسطها بعد هذا ، فذكر أنه سبحانه يتلو على نبيه خبر موسى وفرعون بالحق ; أي بالصدق الذي كأن سامعه مشاهد للأمر معاين له إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا أي ; تجبر وعتا ، وطغى وبغى ، وآثر الحياة الدنيا وأعرض عن طاعة الرب الأعلى . وجعل أهلها شيعا أي ; قسم رعيته إلى أقسام وفرق وأنواع يستضعف طائفة منهم وهم شعب بني إسرائيل ، الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله . وكانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض ، وقد سلط الله عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر ، يستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع والحرف ، وأردئها ، وأدناها ، ومع هذا يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين وكان الحامل له على هذا الصنيع القبيح ، أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما كانوا يأثرونه عن إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، من أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه ، وذلك ، والله أعلم ، حين جرى على سارة امرأة الخليل من ملك مصر ، من إرادته إياها على السوء ، وعصمة الله لها . [ ص: 33 ] وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل ، فتحدث بها القبط فيما بينهم ، ووصلت إلى فرعون في مجلس مسامرته مع أمرائه وأساورته وهم يسمرون عنده ، فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل ; حذرا من وجود هذا الغلام ، ولن يغني حذر من قدر .
وذكر السدي عن أبي صالح ، وأبي مالك ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من الصحابة أن فرعون رأى في منامه كأن نارا قد أقبلت من نحو بيت المقدس فأحرقت دور مصر وجميع القبط ، ولم تضر بني إسرائيل ، فلما استيقظ هاله ذلك فجمع الكهنة والحزاة والسحرة وسألهم عن ذلك ، فقال له الكهنة : هذا غلام يولد من بني إسرائيل ، يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه . فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النسوان . ولهذا قال الله تعالى : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وهم بنو إسرائيل ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين أي ; الذين يئول ملك مصر وبلادها إليهم ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون أي ; سنجعل الضعيف قويا ، والمقهور قاهرا ، والذليل عزيزا . وقد جرى هذا كله لبني إسرائيل ; كما قال [ ص: 34 ] تعالى : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [ الأعراف : 137 ] وقال تعالى : فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ الشعراء 57 - 59 ] . وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى .
والمقصود أن فرعون احترز كل الاحتراز أن لا يوجد موسى ، حتى جعل رجالا وقوابل يدورون على الحبالى ، ويعلمون ميقات وضعهن ، فلا تلد امرأة ذكرا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته . وعند أهل الكتاب أنه إنما كان يأمر بذبح الغلمان لتضعف شوكة بني إسرائيل ، فلا يقاومونهم إذا غالبوهم أو قاتلوهم . وفي هذا نظر ، بل هو باطل ، وإنما وقع هذا بعد بعثة موسى فجعل يقتل الولدان ، كما قال تعالى : فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم [ غافر : 5 ] . ولهذا قالت بنو إسرائيل لموسى : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا [ الأعراف : 129 ] . فالصحيح أن فرعون إنما أمر بقتل الغلمان أولا حذرا من وجود موسى عليه السلام . هذا ، والقدر يقول : يا أيها الملك الجبار ، المغرور بكثرة جنوده ، وسلطة بأسه واتساع سلطانه ، قد حكم العظيم الذي لا [ ص: 35 ] يغالب ولا يمانع ، ولا تخالف أقداره أن هذا المولود الذي تحترز منه ، وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى ، لا يكون مرباه إلا في دارك وعلى فراشك ، ولا يغذى إلا بطعامك وشرابك في منزلك ، وأنت الذي تتبناه وتربيه وتتعداه ، ولا تطلع على سر معناه ، ثم يكون هلاكك في دنياك وأخراك على يديه ; لمخالفتك ما جاءك به من الحق المبين ، وتكذيبك ما أوحي إليه ، لتعلم أنت وسائر الخلق أن رب السماوات والأرض هو الفعال لما يريد ، وأنه هو القوي الشديد ، ذو البأس العظيم ، والحول والقوة والمشيئة ، التي لا مرد لها .
وقد ذكر غير واحد من المفسرين ، أن القبط شكوا إلى فرعون قلة بني إسرائيل ، بسبب قتل ولدانهم الذكور ، وخشوا أن تتفانى الكبار مع قتل الصغار ، فيصيرون هم الذين يلون ما كان يليهبنو إسرائيل من الأعمال الشاقة ، فأمر فرعون بقتل الأبناء عاما ، وأن يتركوا عاما ، فولد هارون ، عليه السلام ، في عام المسامحة عن قتل الأبناء ، وولد موسى ، عليه السلام ، في عام قتلهم ، فضاقت أمه به ذرعا ، واحترزت من أول ما حبلت به ، ولم يكن يظهر عليها مخايل الحبل ، فلما وضعت ألهمت أن اتخذت له تابوتا ، فربطته في حبل ، وكانت دارها متاخمة للنيل ، فكانت ترضعه ، فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت فأرسلته في البحر ، وأمسكت طرف الحبل عندها ، [ ص: 36 ] فإذا ذهبوا استرجعته إليها به .
قال الله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون [ القصص 7 - 9 ] . هذا الوحي وحي إلهام وإرشاد ، كما قال تعالى : وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا [ النحل : 68 ، 69 ] . وليس هو بوحي نبوة ; كما زعمه ابن حزم ، وغير واحد من المتكلمين ، بل الصحيح الأول ، كما حكاه أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة . قال السهيلي : واسم أم موسى ياوخ وقيل : أياذخت .
والمقصود أنها أرشدت إلى هذا الذي ذكرناه ، وألقي في خلدها وروعها أن لا تخافي ولا تحزني ، فإنه إن ذهب فإن الله سيرده إليك ، وإن الله سيجعله نبيا مرسلا ، يعلي كلمته في الدنيا والآخرة ، فكانت تصنع ما أمرت به ، فأرسلته ذات يوم ، وذهلت أن تربط طرف الحبل عندها ، فذهب مع النيل فمر على [ ص: 37 ] دار فرعون فالتقطه آل فرعون قال الله تعالى : ليكون لهم عدوا وحزنا قال بعضهم : هذه لام العاقبة . وهو ظاهر إن كان متعلقا بقوله فالتقطه وأما إن جعل متعلقا بمضمون الكلام ; وهو أن آل فرعون قيضوا لالتقاطه ; ليكون لهم عدوا وحزنا ، صارت اللام معللة لغيرها ، والله أعلم . ويقوي هذا التفسير الثاني قوله إن فرعون وهامان وهو الوزير السوء وجنودهما المتابعين لهما كانوا خاطئين أي ; كانوا على خلاف الصواب ، فاستحقوا هذه العقوبة والحسرة .
وذكر المفسرون أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق عليه ، فلم يتجاسرن على فتحه ، حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون ; آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد ، الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف . وقيل : إنها كانت من بني إسرائيل من سبط موسى . وقيل : بل كانت عمته . حكاه السهيلي . فالله أعلم . وسيأتي مدحها والثناء عليها في قصة مريم بنت عمران ، وأنهما يكونان يوم القيامة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة . فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب ، رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية والجلالة الموسوية ، فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حبا شديدا ، فلما جاء [ ص: 38 ] فرعون قال : ما هذا ؟ وأمر بذبحه ، فاستوهبته منه ودفعت عنه ، وقالت : قرة عين لي ولك فقال لها فرعون : أما لك فنعم ، وأما لي فلا . أي ; لا حاجة لي به . والبلاء موكل بالمنطق . وقولها : عسى أن ينفعنا وقد أنالها الله ما رجت من النفع ; أما في الدنيا فهداها الله به ، وأما في الآخرة فأسكنها جنته بسببه أو نتخذه ولدا وذلك لأنهما تبنياه ; لأنه لم يكن يولد لهما ولد . قال الله تعالى : وهم لا يشعرون أي ; لا يدرون ماذا يريد الله بهم ، أن قيضهم لالتقاطه ، من النقمة العظيمة بفرعون وجنوده . وعند أهل الكتاب أن الذي التقطت موسى وربته ابنة فرعون ، وليس لامرأته ذكر بالكلية . وهذا من غلطهم على كتاب الله ، عز وجل . قال الله تعالى وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون [ القصص : 10 - 13 ] . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبو عبيدة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم : وأصبح فؤاد أم موسى فارغا أي ; من كل شيء من أمور الدنيا إلا من [ ص: 39 ] أمر موسى إن كادت لتبدي به أي ; لتظهر أمره وتسأل عنه جهرة . لولا أن ربطنا على قلبها أي ; صبرناها وثبتناها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته وهي ابنتها الكبيرة : قصيه أي; اتبعي أثره واطلبي لي خبره فبصرت به عن جنب قال مجاهد : عن بعد . وقال قتادة : جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده . ولهذا قال تعالى : وهم لا يشعرون وذلك لأن موسى ، عليه السلام ، لما استقر بدار فرعون أرادوا أن يغذوه برضاعة ، فلم يقبل ثديا ولا أخذ طعاما ، فحاروا في أمره واجتهدوا في ذلك ، أي على تغذيته بكل ممكن فلم يفعل ، كما قال تعالى : وحرمنا عليه المراضع من قبل فأرسلوه مع القوابل والنساء إلى السوق ; لعلهم يجدون من يوافق رضاعته ، فبينما هم وقوف به والناس عكوف عليه ، إذ بصرت به أخته ، فلم تظهر أنها تعرفه ، بل قالت : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون قال ابن عباس : لما قالت ذلك ، قالوا لها : ما يدريك بنصحهم وشفقتهم عليه ؟ فقالت : رغبة في صهر الملك ، ورجاء منفعته . فأطلقوها وذهبوا معها إلى منزلهم ، فأخذته أمه ، فلما أرضعته التقم ثديها وأخذ يمتصه ويرتضعه ، ففرحوا بذلك فرحا شديدا ، وذهب البشير إلى آسية يعلمها بذلك ، فاستدعتها إلى منزلها ، وعرضت عليها أن تكون عندها ، وأن تحسن إليها ، فأبت عليها وقالت : إن لي بعلا وأولادا ، ولست [ ص: 40 ] أقدر على هذا إلا أن ترسليه معي . فأرسلته معها ، ورتبت لها رواتب ، وأجرت عليها النفقات والكساوى والهبات ، فرجعت به تحوزه إلى رحلها ، وقد جمع الله شمله بشملها ، قال الله تعالى فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق أي ; كما وعدناها برده ورسالته ، فهذا رده ، وهو دليل على صدق البشارة برسالته ولكن أكثرهم لا يعلمون .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 4:38 pm | |
| ﴿ (58) ذكر قصة موسى الكليم ، عليه الصلاة والسلام (3) ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
وجمع الكل في سورة " النمل " في قوله تعالى : إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون [ النمل : 7 ] . وقد أتاهم منها بخبر ، وأي خبر؟ ووجد عندها هدى ، وأي هدى؟ واقتبس منها نورا ، وأي نور؟ . قال الله تعالى : فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وقال تعالى في " النمل " : فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين [ النمل : 8 ] . [ ص: 55 ] أي; سبحان الله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم [ النمل : 9 ] . وقال في سورة " طه " : فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى [ طه : 11 - 16 ] . قال غير واحد من المفسرين ، من السلف والخلف : لما قصد موسى إلى تلك النار التي رآها ، فانتهى إليها ، وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج ، وكل ما لتلك النار في اضطرام ، وكل ما لخضرة تلك الشجرة في ازدياد ، فوقف متعجبا ، وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه; كما قال تعالى وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين [ القصص : 44 ] . وكان موسى في واد اسمه طوى ، فكان موسى مستقبل القبلة ، وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب ، فناداه ربه بالواد المقدس طوى ، فأمر أولا بخلع نعليه; تعظيما وتكريما وتوقيرا لتلك البقعة المباركة ، ولا سيما في تلك الليلة المباركة . وعند أهل الكتاب أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور; مهابة له وخوفا على بصره .
[ ص: 56 ] ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلا له : إني أنا الله رب العالمين إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري أي; أنا الله رب العالمين ، الذي لا إله إلا هو الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له . ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار ، إنما الدار الباقية يوم القيامة ، التي لا بد من كونها ووجودها لتجزى كل نفس بما تسعى أي; من خير وشر . وحضه وحثه على العمل لها ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصى مولاه ، واتبع هواه . ثم قال له مخاطبا ومؤانسا ، ومبينا له أنه القادر على كل شيء الذي يقول للشيء : كن . فيكون : وما تلك بيمينك ياموسى [ طه : 17 ] . أي; أما هذه عصاك التي تعرفها منذ صحبتها؟ قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مئارب أخرى [ طه : 18 ] . أي; بل هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها قال ألقها ياموسى فألقاها فإذا هي حية تسعى [ طه : 19 ، 20 ] . وهذا خارق عظيم ، وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء : كن فيكون . وأنه الفعال بالاختيار .
وعند أهل الكتاب أنه سأل برهانا على صدقه عند من يكذبه من أهل مصر ، فقال له الرب عز وجل : ما هذه التي في يدك؟ قال : عصاي . قال : ألقها إلى الأرض فألقاها فإذا هي حية تسعى فهرب موسى من قدامها ، فأمره الرب ، عز وجل ، أن يبسط يده ويأخذها بذنبها ، فلما استمكن منها ارتدت عصا في يده . وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى : وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب [ ص: 57 ] أي; صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة ، وأنياب تصطك ، وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان ، وهو ضرب من الحيات يقال له : الجان والجنان . وهو لطيف ، ولكنه سريع الاضطراب والحركة جدا ، فهذه جمعت الضخامة والسرعة الشديدة فلما عاينها موسى ، عليه السلام ، ولى مدبرا أي; هاربا منها; لأن طبيعته البشرية تقتضي ذلك ولم يعقب أي; ولم يلتفت فناداه ربه قائلا له : ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى فيقال : إنه هابها شديدا ، فوضع يده في كم مدرعته ، ثم وضع يده في وسط فمها - وعند أهل الكتاب : بذنبها - فلما استمكن منها ، إذا هي قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين . فسبحان القدير العظيم رب المشرقين والمغربين . ثم أمره تعالى بإدخال يده في جيبه ، ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضا من غير سوء أي; من غير برص ولا بهق . ولهذا قال : اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب قيل : معناه إذا خفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك . وهذا وإن كان خاصا به ، إلا أن ببركة الإيمان به حق الإيمان ينتفع من استعمل ذلك على وجه الاقتداء بالأنبياء . وقال في سورة " النمل " : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين [ النمل : 12 ] . [ ص: 58 ] أي; هاتان الآيتان وهما العصا واليد ، وهما البرهانان المشار إليهما في قوله : فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين ومع ذلك سبع آيات أخر فذلك تسع آيات بينات وهي المذكورة في آخر سورة " سبحان " حيث يقول تعالى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا [ الإسراء : 101 ، 102 ] . وهي المبسوطة في سورة " الأعراف " في قوله : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين [ الأعراف : 130 - 133 ] . كما سيأتي الكلام على ذلك في موضعه . وهذه التسع الآيات غير العشر كلمات; فإن التسع من آيات الله القدرية ، والعشر من كلماته الشرعية . وإنما نبهنا على هذا; لأنه قد اشتبه أمرها على بعض الرواة فظن أن هذه هي هذه ، كما قررنا ذلك في تفسير آخر سورة بني إسرائيل .
[ ص: 59 ] والمقصود أن الله سبحانه لما أمر موسى ، عليه السلام ، بالذهاب إلى فرعون قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون [ القصص : 33 - 35 ] . يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى ، عليه السلام ، في جوابه لربه ، عز وجل ، حين أمره بالذهاب إلى عدوه ، الذي خرج من ديار مصر فرارا من سطوته وظلمه ، حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي ولهذا قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون أي; اجعله معي معينا وردءا ووزيرا يساعدني ويعينني على أداء رسالتك إليهم ; فإنه أفصح مني لسانا وأبلغ بيانا . قال الله تعالى ، مجيبا له إلى سؤاله : سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا أي; برهانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أي; فلا ينالون منكما مكروها بسبب قيامكما بآياتنا . وقيل ببركة آياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون وقال في سورة " طه " : اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي [ طه : 24 - 28 ] . قيل : إنه أصابه في لسانه لثغة; بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه ، التي كان فرعون أراد اختبار عقله ، حين [ ص: 60 ] أخذ بلحيته وهو صغير ، فهم بقتله ، فخافت عليه آسية ، وقالت : إنه طفل . فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه ، فهم بأخذ التمرة ، فصرف الملك يده إلى الجمرة ، فأخذها ، فوضعها على لسانه ، فأصابه لثغة بسببها ، فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله ، ولم يسأل زوالها بالكلية . قال الحسن البصري : والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة . ولهذا بقيت في لسانه بقية ، ولهذا قال فرعون ، قبحه الله ، فيما زعم إنه يعيب به الكليم : ولا يكاد يبين [ الزخرف : 52 ] . أي; يفصح عن مراده ، ويعبر عما في ضميره وفؤاده . ثم قال موسى ، عليه السلام : واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [ طه : 29 - 36 ] . أي; قد أجبناك إلى جميع ما سألت ، وأعطيناك الذي طلبت . وهذا من وجاهته عند ربه عز وجل ، حين شفع أن يوحي الله إلى أخيه فأوحى إليه ، وهذا جاه عظيم ، قال الله تعالى : وكان عند الله وجيها [ الأحزاب : 69 ] . وقال تعالى : ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا [ مريم : 53 ] . وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلا يقول لأناس ، وهم سائرون في طريق الحج : أي أخ أمن على أخيه؟ فسكت القوم ، فقالت عائشة لمن حول هودجها : هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه أن يكون نبيا يوحى إليه . قال الله تعالى : ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا .
[ ص: 61 ] وقال تعالى في سورة " الشعراء " : وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين [ الشعراء : 10 - 19 ] . تقدير الكلام : فأتياه فقولا له ذلك وبلغاه ما أرسلتما به من دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته ، ويتركهم يعبدون ربهم حيث شاءوا ، ويتفرغون لتوحيده ، ودعائه ، والتضرع لديه . فتكبر فرعون في نفسه ، وعتا وطغى ، ونظر إلى موسى ، عليه السلام ، بعين الازدراء والتنقص ، قائلا له : ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين أي; أما أنت الذي ربيناه في منزلنا وأحسنا إليه ، وأنعمنا عليه مدة من الدهر؟ وهذا يدل على أن فرعون الذي بعث إليه هو الذي فر منه ، خلافا لما عند أهل الكتاب من أن فرعون الذي فر منه مات في مدة مقامه بمدين ، وأن الذي بعث إليه فرعون آخر . وقوله : وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين أي; وقتلت الرجل القبطي ، وفررت منا ، وجحدت نعمتنا [ ص: 62 ] قال فعلتها إذا وأنا من الضالين أي; قبل أن يوحى إلى ، وينزل على ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين [ الشعراء : 21 ] . ثم قال مجيبا لفرعون عما امتن به عليه من التربية والإحسان إليه وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل [ الشعراء : 22 ] . أي; وهذه النعمة التي ذكرت ، من أنك أحسنت إلي ، وأنا رجل واحد من بني إسرائيل ، تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله ، واستعبدتهم في أعمالك وخدمتك وأشغالك .
قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون [ الشعراء : 23 - 28 ] . يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى ، من المقاولة والمحاجة والمناظرة ، وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية . وذلك أن فرعون ، قبحه الله ، أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى ، وزعم أنه الإله فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى [ النازعات : 23 ، 24 ] . وقال : ياأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري [ القصص : 38 ] . وهو في هذه المقالة معاند ، [ ص: 63 ] يعلم أنه عبد مربوب ، وأن الله هو الخالق البارئ المصور ، الإله الحق ، كما قال تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ النمل : 14 ] . ولهذا قال لموسى ، عليه السلام ، على سبيل الإنكار لرسالته ، والإظهار أنه ما ثم رب أرسله : وما رب العالمين [ الشعراء : 23 ] . لأنهما قالا له : إنا رسول رب العالمين فكأنه يقول لهما : ومن رب العالمين ، الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما؟ فأجابه موسى قائلا : رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين [ الشعراء : 24 ] . يعني رب العالمين ، خالق هذه السماوات والأرض المشاهدة ، وما بينهما من المخلوقات المتجددة; من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات ، التي يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها ، ولا بد لها من موجد ومحدث وخالق ، وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين . قال أي; فرعون لمن حوله من أمرائه ، ومرازبته ووزرائه ، على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى ، عليه السلام : ألا تستمعون يعني كلامه هذا . قال موسى مخاطبا له ولهم : ربكم ورب آبائكم الأولين [ الشعراء : 26 ] . أي; هو الذي خلقكم والذين من قبلكم; من الآباء والأجداد والقرون السالفة في الآباد ، فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ولا أبوه ولا أمه ، ولم يحدث من غير محدث ، وإنما أوجده وخلقه رب العالمين . وهذان المقامان هما [ ص: 64 ] المذكوران في قوله تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ فصلت : 53 ] . ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ، ولا نزع عن ضلالته ، بل استمر على طغيانه وعناده ، وكفرانه قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون [ الشعراء : 27 ، 28 ] . أي; هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة ، المسير للأفلاك الدائرة ، خالق الظلام والضياء ورب الأرض والسماء ، رب الأولين والآخرين ، خالق الشمس والقمر ، والكواكب السائرة والثوابت الحائرة ، خالق الليل بظلامه والنهار بضيائه ، والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون ، وفي فلك يسبحون ، يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون ، فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء .
فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه ولم يبق له قول سوى العناد ، عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته ، قال : قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [ الشعراء : 29 - 33 ] . وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما ، وهما العصا واليد . وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم ، الذي بهر به العقول والأبصار ، حين ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، أي عظيم الشكل ، بديع في الضخامة والهول ، والمنظر العظيم الفظيع الباهر ، حتى قيل : إن فرعون [ ص: 65 ] لما شاهد ذلك وعاينه ، أخذه رعب شديد ، وخوف عظيم ، بحيث إنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم واحد ، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوما إلا مرة واحدة ، فانعكس عليه الحال . وهكذا لما أدخل موسى ، عليه السلام ، يده في جيبه واستخرجها ، أخرجها وهي كفلقة القمر ، تتلألأ نورا يبهر الأبصار ، فإذا أعادها إلى جيبه رجعت إلى صفتها الأولى ، ومع هذا كله لم ينتفع فرعون ، لعنه الله ، بشيء من ذلك ، بل استمر على ما هو عليه ، وأظهر أن هذا كله سحر ، وأراد معارضته بالسحرة ، فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ، ومن في رعيته وتحت قهره ودولته ، كما سيأتي بسطه وبيانه في موضعه; من إظهار الله الحق المبين ، والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وملئه ، وأهل دولته وملته ، ولله الحمد والمنة .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 4:40 pm | |
| ﴿ (57) ذكر قصة موسى الكليم ، عليه الصلاة والسلام (2) ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
وقد امتن الله بهذا على موسى ليلة كلمه ، فقال له فيما قال له : ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني [ طه 37 - 39 ] . وذلك أنه لا يراه أحد إلا أحبه ولتصنع على عيني قال قتادة ، وغير واحد من السلف : أي تطعم وترفه وتغذى بأطيب المآكل ، وتلبس أحسن الملابس ; بمرأى مني ، وذلك كله بحفظي وكلاءتي لك فيما صنعت بك ولك ، وقدرته من الأمور التي لا يقدر عليها غيري إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا [ طه : 40 ] . وسنورد حديث الفتون في موضعه بعد هذا ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة وعليه التكلان .
[ ص: 41 ] ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين [ القصص : 14 - 17 ] . لما ذكر تعالى أنه أنعم على أمه برده إليها ، وإحسانه بذلك ، وامتنانه عليها ، شرع في ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى ; وهو احتكام الخلق والخلق ، وهو سن الأربعين ، في قول الأكثرين ، آتاه الله حكما وعلما ; وهو النبوة والرسالة التي كان بشر بها أمه ، حيث قال : إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ثم شرع في ذكر سبب خروجه من بلاد مصر ، وذهابه إلى أرض مدين وإقامته هنالك ، حتى كمل الأجل ، وانقضى الأمد ، وكان ما كان من كلام الله له ، وإكرامه بما أكرمه به كما سيأتي .
قال تعالى : ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي : وذلك نصف النهار . وفي رواية عن ابن عباس : بين العشائين فوجد فيها رجلين يقتتلان أي ; يتضاربان ويتهاوشان هذا من شيعته أي ; إسرائيلي وهذا من عدوه أي ; قبطي . قاله ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، ومحمد بن إسحاق [ ص: 42 ] فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه وذلك أن موسى ، عليه السلام ، كانت له بديار مصر صولة ; بسبب نسبته إلى تبني فرعون له وتربيته في بيته ، وكانت بنو إسرائيل قد عزوا وصارت لهم وجاهة ، وارتفعت رءوسهم بسبب أنهم أرضعوه ، وهم أخواله ، أي من الرضاعة ، فلما استغاث ذلك الإسرائيلي موسى ، عليه السلام ، على ذلك القبطي ، أقبل إليه موسى فوكزه قال مجاهد : أي طعنه بجمع كفه . وقال قتادة : بعصا كانت معه فقضى عليه أي ; فمات منها . وقد كان ذلك القبطي كافرا مشركا بالله العظيم ، ولم يرد موسى قتله بالكلية ، وإنما أراد زجره وردعه ، ومع هذا قال موسى هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي أي ، من العز والجاه فلن أكون ظهيرا للمجرمين .
فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين [ القصص 18 - 21 ] . يخبر تعالى [ ص: 43 ] أن موسى أصبح بمدينة مصر خائفا أي من فرعون وملئه ، أن يعلموا أن هذا القتيل الذي رفع إليه أمره إنما قتله موسى في نصرة رجل من بني إسرائيل ، فتقوى ظنونهم أن موسى منهم ويترتب على ذلك أمر عظيم ، فصار يسير في المدينة في صبيحة ذلك اليوم خائفا يترقب أي ; يتلفت . فبينما هو كذلك ، إذا ذلك الرجل الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس يستصرخه أي ; يصرخ به ، ويستغيثه على آخر قد قاتله ، فعنفه موسى ولامه على كثرة شره ، ومخاصمته ، قال له إنك لغوي مبين ثم أراد أن يبطش بذلك القبطي ، الذي هو عدو لموسى وللإسرائيلي ، فيردعه عنه ويخلصه منه ، فلما عزم على ذلك وأقبل على القبطي قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين [ القصص : 19 ] . قال بعضهم : إنما قال هذا الكلام الإسرائيلي الذي اطلع على ما كان صنع موسى بالأمس ، وكأنه لما رأى موسى مقبلا إلى القبطي ، اعتقد أنه جاء إليه لما عنفه قبل ذلك بقوله إنك لغوي مبين فقال ما قال لموسى ، وأظهر الأمر الذي كان وقع بالأمس ، فذهب القبطي فاستعدى فرعون على موسى . وهذا الذي لم يذكره كثير من الناس سواه . ويحتمل أن قائل هذا هو القبطي ، وأنه لما رآه مقبلا إليه خافه ; ورأى من سجيته انتصارا جيدا للإسرائيلي ، فقال ما قال من باب الظن والفراسة ، أن هذا لعله قاتل ذاك القتيل بالأمس ، أو لعله فهم من كلام الإسرائيلي ، حين استصرخه عليه ، ما دله على هذا . والله أعلم .
والمقصود أن فرعون بلغه أن موسى هو قاتل ذلك المقتول بالأمس ، فأرسل [ ص: 44 ] في طلبه ، وسبقهم رجل ناصح من طريق أقرب إليه ، وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى ساعيا إليه مشفقا عليه فقال : ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج أي ; من هذه البلدة إني لك من الناصحين أي ; فيما أقوله لك . قال الله تعالى : فخرج منها خائفا يترقب أي ; فخرج من مدينة مصر من فوره ، على وجهه ، لا يهتدي إلى طريق ولا يعرفه ، قائلا : رب نجني من القوم الظالمين .
ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [ القصص : 22 - 24 ] . يخبر تعالى عن خروج عبده ورسوله وكليمه من مصر خائفا يترقب أي ; يتلفت خشية أن يدركه أحد من قوم فرعون ، وهو لا يدري أين يتوجه ، ولا إلى أين يذهب ، وذلك لأنه لم يخرج من مصر قبلها ولما توجه تلقاء مدين أي ; اتجه له طريق يذهب فيه قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل أي ; عسى أن تكون هذه الطريق موصلة إلى المقصود . وكذا وقع ، أوصلته إلى مقصود ، وأي مقصود ولما ورد ماء مدين وكانت بئرا يستقون منها . ومدين هي المدينة التي أهلك الله فيها أصحاب الأيكة ، وهم قوم شعيب عليه السلام ، وقد [ ص: 45 ] كان هلاكهم قبل زمن موسى ، عليه السلام ، في أحد قولي العلماء . ولما ورد الماء المذكور وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان أي ; تكفكفان غنمهما أن تختلط بغنم الناس . وعند أهل الكتاب ، أنهن كن سبع بنات . وهذا أيضا من الغلط . ولعله كان له سبع ، ولكن إنما كان تسقي اثنتان منهن . وهذا الجمع ممكن إن كان ذلك محفوظا ، وإلا فالظاهر أنه لم يكن له سوى بنتين .
قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير أي ; لا نقدر على ورد الماء إلا بعد صدور الرعاء ; لضعفنا ، وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره . قال الله تعالى : فسقى لهما قال المفسرون : وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم ، وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة ، فتجيء هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام الناس ، فلما كان ذلك اليوم جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده ، ثم استقى لهما ، وسقى غنمهما ، ثم رد الصخرة كما كانت . قال أمير المؤمنين عمر : وكان لا يرفعه إلا عشرة . وإنما استقى ذنوبا واحدا فكفاهما ، ثم تولى إلى الظل . قالوا : وكان ظل شجرة من السمر . وروى ابن جرير ، [ ص: 46 ] عن ابن مسعود ، أنه رآها خضراء ترف . فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير . قال ابن عباس : سار من مصر إلى مدين ، لم يأكل إلا البقل وورق الشجر ، وكان حافيا فسقطت نعلا قدميه من الحفاء وجلس في الظل ، وهو صفوة الله من خلقه ، وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع ، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه ، وأنه لمحتاج إلى شق تمرة . قال عطاء بن السائب : لما قال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير أسمع المرأة .
فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل [ القصص : 25 - 28 ] . لما جلس موسى ، عليه السلام ، في الظل ، وقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير سمعته المرأتان ، فيما قيل ، فذهبتا إلى أبيهما ، فيقال : إنه استنكر سرعة رجوعهما ، فأخبرتاه ما كان من أمر موسى عليه السلام ، فأمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه فجاءته إحداهما تمشي على استحياء [ ص: 47 ] أي ; مشي الحرائر . قال عمر ، رضي الله عنه : تستر وجهها بكم درعها إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا صرحت له بهذا ; لئلا يوهم كلامها ريبة ، وهذا من تمام حيائها وصيانتها . فلما جاءه وقص عليه القصص أي ; وأخبره خبره ، وما كان من أمره ; في خروجه من بلاد مصر فرارا من فرعونها ، قال له ذلك الشيخ : لا تخف نجوت من القوم الظالمين أي ; خرجت من سلطانهم ، فلست في دولتهم .
وقد اختلفوا في هذا الشيخ ; من هو ؟ فقيل : هو شعيب ، عليه السلام . وهذا هو المشهور عند كثيرين . وممن نص عليه الحسن البصري ، ومالك بن أنس ، وجاء مصرحا به في حديث ، ولكن في إسناده نظر . وصرح طائفة بأن شعيبا ، عليه السلام ، عاش عمرا طويلا بعد هلاك قومه ، حتى أدركه موسى ، عليه السلام ، وتزوج بابنته . وروى ابن أبي حاتم وغيره ، عن الحسن البصري ، أن صاحب موسى ، عليه السلام ، هذا اسمه شعيب ، وكان سيد الماء ، ولكن ليس بالنبي صاحب مدين . وقيل : إنه ابن أخي شعيب . وقيل : ابن عمه . وقيل : رجل مؤمن من قوم شعيب . وقيل : رجل [ ص: 48 ] اسمه يثرون . هكذا هو في كتب أهل الكتاب : يثرون كاهن مدين . أي ; كبيرها وعالمها . قال ابن عباس ، وأبو عبيدة بن عبد الله : اسمه يثرون . زاد أبو عبيدة : وهو ابن أخي شعيب . زاد ابن عباس : صاحب مدين .
والمقصود أنه لما أضافه وأكرم مثواه ، وقص عليه ما كان من أمره ، بشره بأنه قد نجا ، فعند ذلك قالت إحدى البنتين لأبيها يا أبت استأجره أي; لرعي غنمك . ثم مدحته بأنه قوي أمين . قال عمر ، وابن عباس ، وشريح القاضي ، وأبو مالك ، وقتادة ، ومحمد بن إسحاق ، وغير واحد : لما قالت ذلك قال لها أبوها : وما علمك بهذا؟ فقالت : إنه رفع صخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة ، وإنه لما جئت معه تقدمت أمامه ، فقال : كوني من ورائي ، فإذا اختلف الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق . قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة; صاحب يوسف حين قال لامرأته : أكرمي مثواه وصاحبة موسى حين قالت : ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب
قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين استدل بهذا جماعة من أصحاب أبي حنيفة ، رحمه الله ، على صحة ما إذا باعه أحد هذين العبدين أو الثوبين ، ونحو ذلك ، أنه يصح; لقوله : إحدى ابنتي هاتين وفي هذا نظر; لأن هذه مراوضة لا معاقدة . [ ص: 49 ] والله أعلم . واستدل أصحاب أحمد على صحة الإيجار بالطعمة والكسوة ، كما جرت به العادة ، واستأنسوا بالحديث الذي رواه ابن ماجه في " سننه " مترجما في كتابه " باب استئجار الأجير على طعام بطنه " : حدثنا محمد بن المصفىالحمصي ، حدثنا بقية بن الوليد ، عن مسلمة بن علي ، عن سعيد بن أبي أيوب ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ، قال : سمعت عتبة بن الندر يقول : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ " طسم " حتى إذا بلغ قصة موسى قال : إن موسى ، عليه السلام ، آجر نفسه ثماني سنين ، أو عشرا ، على عفة فرجه وطعام بطنه . وهذا من هذا الوجه لا يصح; لأن مسلمة بن علي الخشني الدمشقي البلاطي ضعيف عند الأئمة ، لا يحتج بتفرده ، ولكن قد روي من وجه آخر; فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني ابن لهيعة ، ( ح ) . وحدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الله بن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن علي بن رباح اللخمي ، قال : سمعت عتبة بن الندر السلمي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله قال : إن موسى ، عليه السلام ، آجر نفسه لعفة فرجه وطعمة بطنه .
[ ص: 50 ] ثم قال تعالى : ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل [ القصص : 28 ] . يقول : إن موسى قال لصهره : الأمر على ما قلت ، فأيهما قضيت فلا عدوان علي ، والله على مقالتنا سامع وشاهد ، ووكيل علي وعليك . ومع هذا فلم يقض موسى إلا أكمل الأجلين وأتمهما ، وهو العشر سنين كوامل تامة .
قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مروان بن شجاع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت : لا أدري ، حتى أقدم على حبر العرب فأسأله . فقدمت ، فسألت ابن عباس ، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل . تفرد به البخاري من هذا الوجه . وقد رواه النسائي في حديث الفتون ، كما سيأتي من طريق القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير به . وقد رواه ابن جرير عن أحمد بن محمد الطوسي ، وابن أبي حاتم عن أبيه ، كلاهما عن الحميدي ، عن سفيان بن عيينة ، حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : سألت جبريل : أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أتمهما وأكملهما وإبراهيم هذا غير معروف إلا [ ص: 51 ] بهذا الحديث . وقد رواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي ، عن سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن أعين ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . وقد رواه سنيد عن حجاج ، عن ابن جريج عن مجاهد مرسلا ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن ذلك جبريل ، فسأل جبريل إسرافيل ، فسأل إسرافيل الرب ، عز وجل ، فقال : أبرهما وأوفاهما وبنحوه رواه ابن أبي حاتم من حديث يوسف بن سرج مرسلا . ورواه ابن جرير من طريق محمد بن كعب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أوفاهما وأتمهما . وقد رواه البزار وابن أبي حاتم ، من حديث عويد بن أبي عمران الجوني - وهو ضعيف - عن أبيه ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سئل : أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أوفاهما وأبرهما . قال : وإن سئل : أي المرأتين تزوج؟ فقل : الصغرى منهما وقد رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن علي بن رباح ، عن عتبة بن الندر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إن موسى آجر نفسه بعفة فرجه وطعام [ ص: 52 ] بطنه . فلما وفى الأجل . قيل : يا رسول الله ، أي الأجلين؟ قال : أبرهما وأوفاهما ، فلما أراد فراق شعيب ، أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به ، فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام ، وكانت غنمه سودا حسانا ، فانطلق موسى ، عليه السلام ، إلى عصا قسمها من طرفها ، ثم وضعها في أدنى الحوض ، ثم أوردها فسقاها ، ووقف موسى ، عليه السلام ، بإزاء الحوض ، فلم تصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة قال : فأتأمت وأثلثت ووضعت كلها قوالب ألوان ، إلا شاة أو شاتين; ليس فيها فشوش ، ولا ضبوب ، ولا عزوز ، ولا ثعول ، ولا كمشة تفوت الكف . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم ، وهي السامرية قال ابن لهيعة : الفشوش : واسعة الشخب . والضبوب : طويلة الضرع تجره . والعزوز : ضيقة الشخب . والثعول : الصغيرة الضرع كالحلمتين . والكمشة التي لا يحكم الكف على ضرعها لصغره . وفي صحة رفع هذا الحديث نظر ، وقد يكون موقوفا ، كما قال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك قال : لما دعا نبي الله موسى صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما ، قال له صاحبه : كل شاة ولدت على لونها فلك ولدها . فعمد فوضع خيالا على الماء ، فلما رأت الخيال فزعت ، فجالت جولة ، فولدن كلهن بلقا إلا شاة واحدة ، [ ص: 53 ] فذهب بأولادهن ذلك العام . وهذا إسناد رجاله ثقات . والله أعلم . وقد تقدم ، عن نقل أهل الكتاب ، عن يعقوب عليه السلام ، حين فارق خاله لابان ، أنه أطلق له ما يولد من غنمه بلقا ، ففعل نحو ما ذكر عن موسى ، عليه السلام ، فالله أعلم .
فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين [ القصص : 29 - 32 ] . تقدم أن موسى قضى أتم الأجلين وأكملهما ، وقد يؤخذ هذا من قوله : فلما قضى موسى الأجل وعن مجاهد ، أنه أكمل عشرا ، وعشرا بعدها . وقوله : وسار بأهله أي; من عند صهره ذاهبا ، فيما ذكره غير واحد من المفسرين وغيرهم ، أنه اشتاق إلى أهله ، فقصد زيارتهم ببلاد مصر ، في صورة مختف ، فلما سار بأهله ، ومعه ولدان منهم ، وغنم قد استفادها مدة مقامه . قالوا : واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة ، وتاهوا في طريقهم ، فلم يهتدوا إلى [ ص: 54 ] السلوك في الدرب المألوف ، وجعل يوري زناده فلا يوري شيئا ، واشتد الظلام والبرد ، فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد نارا تأجج في جانب الطور ، وهو الجبل الغربي منه عن يمينه ، فقال لأهله : امكثوا إني آنست نارا وكأنه - والله أعلم - رآها دونهم; لأن هذه النار هي نور في الحقيقة ، ولا تصلح رؤيتها لكل أحد لعلي آتيكم منها بخبر أي; لعلي أستعلم من عندها عن الطريق أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة ومظلمة; لقوله في الآية الأخرى : وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى [ طه : 9 ، 10 ] . فدل على وجود الظلام ، وكونهم تاهوا عن الطريق .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 4:56 pm | |
| ﴿ (59) ذكر قصة موسى الكليم ، عليه الصلاة والسلام (4) ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
وقال تعالى في سورة " طه " : فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [ طه : 40 - 46 ] . يقول تعالى مخاطبا لموسى ، فيما كلمه به ليلة أوحى إليه ، وأنعم بالنبوة عليه ، وكلمه منه إليه : قد كنت مشاهدا لك وأنت في دار فرعون ، وأنت تحت كنفي وحفظي ولطفي ، ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي وتدبيري ، فلبثت [ ص: 66 ] فيها سنين ثم جئت على قدر أي; مني لذلك ، فوافق ذلك تقديري وتسييري واصطنعتك لنفسي أي; اصطفيتك لنفسي برسالتي وبكلامي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري يعني : ولا تفترا في ذكري إذ قدمتما عليه ، ووفدتما إليه; فإن ذلك عون لكما على مخاطبته ومجاوبته ، وإهداء النصيحة إليه ، وإقامة الحجة عليه . وقد جاء في بعض الأحاديث : يقول الله تعالى : إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] .
ثم قال تعالى : اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وهذا من حلمه تعالى ، وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه ، مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره ، وهو إذ ذاك أردى خلقه وقد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان ، ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعواه إليه بالتي هي أحسن; برفق ولين ، ويعاملاه معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى ، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ النحل : 125 ] . وقال تعالى : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم الآية [ العنكبوت : 46 ] . قال الحسن البصري : فقولا له قولا لينا ; . أعذرا إليه ، قولا له : إن لك ربا ولك معادا ، وإن بين يديك جنة [ ص: 67 ] ونارا . وقال وهب بن منبه : قولا له : إني إلي العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة . وقال يزيد الرقاشي عند هذه الآية : يا من يتحبب إلى من يعاديه ، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى وذلك أن فرعون كان جبارا عنيدا ، شيطانا مريدا ، له سلطان في بلاد مصر طويل عريض ، وجاه وجنود وعساكر وسطوة ، فهاباه من حيث البشرية ، وخافا أن يسطو عليهما في بادئ الأمر ، فثبتهما تعالى ، وهو العلي الأعلى ، فقال : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ، كما قال في الآية الأخرى : إنا معكم مستمعون فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى [ طه : 47 ، 48 ] . يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون ، فيدعواه إلى الله تعالى; أن يعبده وحده لا شريك له ، وأن يرسل معهم بني إسرائيل ، ويطلقهم من أسره وقهره ، ولا يعذبهم قد جئناك بآية من ربك وهو البرهان العظيم في العصي واليد والسلام على من اتبع الهدى تقييد مفيد بليغ عظيم . ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب ، فقالا : إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى أي; كذب بالحق بقلبه ، وتولى عن العمل بقالبه .
وقد ذكر السدي وغيره ، أنه لما قدم من بلاد مدين ، دخل على أمه [ ص: 68 ] وأخيه هارون وهما يتعشيان من طعام فيه الطفيشل; وهو اللفت فأكل معهما ، ثم قال يا هارون ، إن الله أمرني وأمرك أن ندعو فرعون إلى عبادته ، فقم معي . فقاما يقصدان باب فرعون ، فإذا هو مغلق ، فقال موسى للبوابين والحجبة : أعلموه أن رسول الله بالباب . فجعلوا يسخرون منه ويستهزئون به . وقد زعم بعضهم أنه لم يؤذن لهما عليه إلا بعد حين طويل . وقال محمد بن إسحاق : أذن لهما بعد سنتين; لأنه لم يك أحد يتجاسر على الاستئذان لهما . فالله أعلم . ويقال : إن موسى تقدم إلى الباب فطرقه بعصاه فانزعج فرعون وأمر بإحضارهما ، فوقفا بين يديه ، فدعواه إلى الله ، عز وجل ، كما أمرهما . وعند أهل الكتاب أن الله قال لموسى ، عليه السلام : إن هارون اللاوي - يعني من نسل لاوي بن يعقوب - سيخرج ويتلقاك . وأمره أن يأخذ معه مشايخ بني إسرائيل إلى عند فرعون ، وأمره أن يظهر ما آتاه من الآيات . وقال له : سأقسي قلبه فلا يرسل الشعب ، وأكثر آياتي وأعاجيبي بأرض مصر . وأوحى الله إلى هارون أن يخرج إلى أخيه يتلقاه بالبرية عند جبل حوريب ، فلما تلقاه أخبره موسى بما أمره به ربه ، فلما دخلا مصر ، جمعا شيوخ بني إسرائيل ، وذهبا إلى فرعون ، فلما بلغاه رسالة الله قال : من هو الله؟ لا أعرفه ، ولا أرسل بني إسرائيل .
وقال الله مخبرا عن فرعون : [ ص: 69 ] قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى [ طه : 49 - 55 ] . يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه أنكر إثبات الصانع تعالى ، قائلا : فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أي; هو الذي خلق الخلق ، وقدر لهم أعمالا وأرزاقا وآجالا ، وكتب ذلك عنده في كتابه اللوح المحفوظ ، ثم هدى كل مخلوق إلى ما قدره له ، فطابق علمه فيهم على الوجه الذي قدره وعلمه; لكمال علمه وقدرته وقدره . وهذه الآية كقوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى [ الأعلى : 1 - 3 ] . أي; قدر قدرا وهدى الخلائق إليه قال فما بال القرون الأولى يقول فرعون لموسى : فإذا كان ربك هو الخالق المقدر ، الهادي الخلائق ، لما قدره ، وهو بهذه المثابة من أنه لا يستحق العبادة سواه ، فلم عبد الأولون غيره وأشركوا به من الكواكب والأنداد ما قد علمت؟ فهلا اهتدى إلى ما ذكرته القرون الأولى؟ قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى أي; هم وإن عبدوا غيره فليس ذلك بحجة لك ، ولا يدل على خلاف ما أقول; لأنهم جهلة مثلك ، وكل شيء فعلوه مستطر عليهم في الزبر من صغير وكبير ، وسيجزيهم على ذلك ربي ، عز وجل ، ولا يظلم أحدا مثقال ذرة; لأن جميع أفعال العباد مكتوبة عنده في كتاب لا يضل عنه شيء ، ولا ينسى ربي شيئا . ثم ذكر له عظمة الرب ، وقدرته على خلق الأشياء وجعله الأرض [ ص: 70 ] مهادا ، والسماء سقفا محفوظا ، وتسخيره السحاب والأمطار لرزق العباد ودوابهم وأنعامهم ، كما قال : كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى أي; لذوي العقول الصحيحة المستقيمة والفطر القويمة غير السقيمة . فهو تعالى الخالق الرزاق . وكما قال تعالى : يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ البقرة : 21 ، 22 ] . ولما ذكر إحياء الأرض بالمطر ، واهتزازها بإخراج نباتها فيه ، نبه به على المعاد فقال : منها أي; من الأرض خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى كما قال تعالى : كما بدأكم تعودون [ الأعراف : 29 ] . وقال تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم [ الروم : 27 ] .
ثم قال تعالى : ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى [ طه : 56 - 59 ] . يخبر تعالى عن شقاء فرعون وكثرة جهله وقلة عقله في تكذيبه بآيات الله ، واستكباره عن اتباعها ، وقوله لموسى : إن هذا الذي جئت به سحر ونحن نعارضك بمثله . ثم طلب من موسى [ ص: 71 ] أن يواعده إلى وقت معلوم ومكان معلوم ، وكان هذا من أكبر مقاصد موسى ، عليه السلام; أن يظهر آيات الله وحججه وبراهينه جهرة بحضرة الناس ولهذا قال : موعدكم يوم الزينة وكان يوم عيد من أعيادهم ، ومجتمع لهم وأن يحشر الناس ضحى أي; من أول النهار ، في وقت اشتداد ضياء الشمس ، فيكون الحق أظهر وأجلى . ولم يطلب أن يكون ذلك ليلا في ظلام ، كيما يروج عليهم محالا وباطلا ، بل طلب أن يكون نهارا جهرة لأنه على بصيرة من ربه ، ويقين أن الله سيظهر كلمته ودينه وإن رغمت أنوف القبط .
قال الله تعالى : فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى [ طه : 60 - 64 ] . يخبر تعالى عن فرعون أنه ذهب ، فجمع من كان ببلاده من السحرة ، وكانت بلاد مصر في ذلك الزمان مملوءة سحرة ، فضلاء ، في فنهم غاية فجمعوا له من كل بلد ، ومن كل مكان ، فاجتمع منهم خلق كثير وجم غفير . فقيل : كانوا ثمانين ألفا . قاله محمد بن كعب . وقيل : سبعين ألفا . قاله القاسم بن أبي بزة وقال السدي : بضعة وثلاثين ألفا . وعن أبي أمامة : تسعة عشر ألفا . وقال [ ص: 72 ] محمد بن إسحاق : خمسة عشر ألفا . وقال كعب الأحبار : كانوا اثني عشر ألفا . وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس : كانوا سبعين رجلا . وروى عنه أيضا أنهم كانوا أربعين غلاما من بني إسرائيل أمرهم فرعون أن يذهبوا إلى العرفاء ، فيتعلموا السحر . ولهذا قالوا : وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى وفي هذا نظر .
وحضر فرعون وأمراؤه وأهل دولته وأهل بلده عن بكرة أبيهم; وذلك أن فرعون نادى فيهم أن يحضروا هذا الموقف العظيم ، فخرجوا وهم يقولون : لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين [ الشعراء : 40 ] . وتقدم موسى عليه السلام إلى السحرة ، فوعظهم وزجرهم عن تعاطي السحر الباطل ، الذي فيه معارضة لآيات الله وحججه ، فقال : ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم قيل : معناه أنهم اختلفوا فيما بينهم; فقائل يقول : هذا كلام نبي وليس بساحر . وقائل منهم يقول : بل هو ساحر . فالله أعلم . وأسروا التناجي بهذا وغيره قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما يقولون : إن هذا وأخاه هارون ساحران ، عليمان ، مطبقان متقنان لهذه الصناعة ، ومرادهم أن يجتمع الناس عليهما ، ويصولا على الملك وحاشيته ، ويستأصلاكم عن آخركم ، ويستأمرا عليكم بهذه الصناعة [ ص: 73 ] فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى وإنما قالوا الكلام الأول ليتدبروا ويتواصوا ، ويأتوا بجميع ما عندهم من المكيدة والمكر والخديعة والسحر والبهتان . وهيهات ، كذبت والله الظنون وأخطأت الآراء ، أنى يعارض البهتان والسحر والهذيان خوارق العادات ، التي أجراها الديان على يدي عبده الكليم ورسوله الكريم ، المؤيد بالبرهان الذي يبهر الأبصار ، وتحار فيه العقول والأذهان . وقولهم : فأجمعوا كيدكم أي; جميع ما عندكم ، ثم ائتوا صفا أي; جملة واحدة . ثم حض بعضهم بعضا على التقدم في هذا المقام; لأن فرعون كان قد وعدهم ومناهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا .
قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى [ طه : 65 - 69 ] . لما اصطف السحرة ووقف موسى وهارون ، عليهما السلام ، تجاههم ، قالوا له : إما أن تلقي قبلنا ، وإما أن نلقي قبلك . قال : بل ألقوا أنتم . وكانوا قد عمدوا إلى حبال وعصي فأودعوها الزئبق وغيره من الآلات التي تضطرب بسببها تلك الحبال والعصي اضطرابا يخيل للرائي أنها تسعى [ ص: 74 ] باختيارها ، وإنما تتحرك بسبب ذلك ، فعند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوهم ، وألقوا حبالهم وعصيهم وهم يقولون : بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون [ الشعراء : 44 ] . قال الله تعالى : فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم [ الأعراف : 116 ] . وقال تعالى : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى أي; خاف على الناس أن يفتتنوا بسحرهم ومحالهم قبل أن يلقي ما في يده ، فإنه لا يضع شيئا قبل أن يؤمر ، فأوحى الله إليه في الساعة الراهنة : لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فعند ذلك ألقى موسى عصاه وقال : ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون [ يونس : 81 ، 82 ] . وقال تعالى : فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون [ الشعراء : 45 ] . فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون [ الأعراف : 118 - 122 ] . وذلك أن موسى عليه السلام ، لما تقدم وألقاها صارت حية عظيمة ذات قوائم - فيما ذكره غير واحد من علماء السلف - وعنق عظيم ، وشكل هائل مزعج ، بحيث إن الناس انحازوا منها ، وهربوا سراعا ، وتأخروا عن مكانها وأقبلت هي على ما ألقوه من الحبال والعصي ، فجعلت تلقفه واحدا واحدا ، في أسرع ما يكون من الحركة ، [ ص: 75 ] والناس ينظرون إليها ، ويتعجبون منها . وأما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم وحيرهم في أمرهم ، واطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم ولا بالهم ، ولا يدخل تحت صناعاتهم وأشغالهم ، فعند ذلك وهنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر ، ولا شعبذة ، ولا محال ولا خيال ولا زور ولا بهتان ولا ضلال ، بل حق لا يقدر عليه إلا الحق الذي ابتعث هذا المؤيد به بالحق ، وكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة ، وأنارها بما خلق فيها من الهدى وأزاح عنها القسوة ، وأنابوا إلى ربهم ، وخروا له ساجدين ، وقالوا جهرة للحاضرين ، ولم يخشوا عقوبة ولا بلوى : آمنا برب موسى وهارون .
كما قال تعالى : فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى قال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، والقاسم بن أبي بزة والأوزاعي ، وغيرهم : لما سجد السحرة ، رأوا منازلهم وقصورهم في [ ص: 76 ] الجنة تهيأ لهم ، وتزخرف لقدومهم ، ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون ، وتهديده ووعيده . وذلك لأن فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا وأشهروا ذكر موسى وهارون في الناس على هذه الصفة الجميلة ، أفزعه ذلك ، ورأى أمرا بهره ، وأعمى بصيرته وبصره ، وكان فيه كيد ومكر وخداع ، وصنعة بليغة في الصد عن سبيل الله ، فقال مخاطبا للسحرة بحضرة الناس : آمنتم له قبل أن آذن لكم أي; هلا شاورتموني فيما صنعتم من الأمر الفظيع بحضرة رعيتي . ثم تهدد وتوعد ، وأبرق وأرعد ، وكذب فأبعد ، قائلا : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر وقال في الآية الأخرى : إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون [ الأعراف : 123 ] . وهذا الذي قاله من البهتان الذي يعلم كل فرد عاقل ما فيه من الكفر والكذب والهذيان ، بل لا يروج مثله على الصبيان; فإن الناس كلهم ، من أهل دولته وغيرهم ، يعلمون أن موسى لم يره هؤلاء يوما من الدهر ، فكيف يكون كبيرهم الذي علمهم السحر؟! ثم هو لم يجمعهم ولا علم باجتماعهم ، حتى كان فرعون هو الذي استدعاهم واجتباهم من كل فج عميق وواد سحيق ، ومن حواضر بلاد مصر والأطراف ، ومن المدن والأرياف .
قال الله تعالى في سورة " الأعراف " [ ص: 77 ] ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين [ الأعراف : 103 - 126 ] .
وقال تعالى في سورة " يونس " : [ ص: 78 ] ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون [ يونس : 75 - 82 ] .
وقال تعالى في سورة " الشعراء " قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين [ الشعراء : 29 - 51 ] .
[ ص: 79 ] والمقصود أن فرعون كذب وافترى ، وكفر غاية الكفر في قوله : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر وأتى ببهتان يعلمه العالمون ، بل العالمون في قوله : إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون وقوله : لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف يعني : يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وعكسه ، ولأصلبنكم أجمعين أي; ليجعلهم مثلة ونكالا; لئلا يقتدي بهم أحد من رعيته وأهل ملته ، ولهذا قال : ولأصلبنكم في جذوع النخل أي; على جذوع النخل; لأنها أعلى وأشهر ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى يعني : في الدنيا قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات أي; لن نطيعك ونترك ما وقر في قلوبنا من البينات ، والدلائل القاطعات ، والذي فطرنا قيل : معطوف . وقيل : قسم فاقض ما أنت قاض أي; فافعل ما قدرت عليه إنما تقضي هذه الحياة الدنيا أي; إنما حكمك علينا في هذه الحياة الدنيا ، فإذا انتقلنا منها إلى الدار الآخرة ، صرنا إلى حكم الذي أسلمنا له واتبعنا رسله إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى [ طه : 73 ] . أي; وثوابه خير مما وعدتنا به من التقريب والترغيب ، وأبقى أي; وأدوم من هذه الدار الفانية . وفي الآية الأخرى : قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا [ ص: 80 ] أي; ما اجترمناه من المآثم والمحارم أن كنا أول المؤمنين أي; من القبط ، بموسى وهارون ، عليهما السلام . وقالوا له أيضا : وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا أي ليس لنا عندك ذنب إلا إيماننا بما جاءنا به رسولنا ، واتباعنا آيات ربنا لما جاءتنا ، ربنا أفرغ علينا صبرا أي; ثبتنا على ما ابتلينا به من عقوبة هذا الجبار العنيد ، والسلطان الشديد ، بل الشيطان المريد ، وتوفنا مسلمين وقالوا أيضا يعظونه ويخوفونه بأس ربه العظيم : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا يقولون له : فإياك أن تكون منهم فكان منهم . ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا أي; المنازل العالية جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى فاحرص أن تكون منهم . فحالت بينه وبين ذلك الأقدار التي لا تغالب ، ولا تمانع وحكم العلي العظيم بأنفرعون ، لعنه الله ، من أهل الجحيم ، ليباشر العذاب الأليم ، يصب من فوق رأسه الحميم . ويقال له ، على وجه التقريع والتوبيخ ، وهو المقبوح المنبوح ، الذميم اللئيم : ذق إنك أنت العزيز الكريم .
[ الدخان : 49 ] . والظاهر من هذه السياقات أن فرعون ، لعنه الله ، صلبهم وعذبهم ، رضي الله عنهم . قال عبد الله بن عباس ، وعبيد بن عمير : كانوا من أول النهار سحرة ، فصاروا من آخره شهداء بررة . ويؤيد هذا قولهم : ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين .
﴿ (60) تحريض فرعون على قتل موسى وإسلام السحرة ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
ولما وقع ما وقع من الأمر العظيم ، وهو الغلب الذي غلبه فرعون وقومه من القبط في ذلك الموقف الهائل ، وأسلم السحرة ، الذين استنصروا ربهم لم يزدهم ذلك إلا كفرا وعنادا وبعدا عن الحق .
قال الله تعالى ، بعد قصص ما تقدم في سورة " الأعراف " : وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون [ الأعراف : 127 - 129 ] . يخبر تعالى عن الملأ من قوم فرعون ، وهم الأمراء والكبراء ، أنهم حرضوا ملكهم فرعون على أذية نبي الله موسى ، عليه السلام ، ومقابلته - بدل التصديق بما جاء به - بالكفر والرد والأذى ، فقالوا أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك يعنون ، قبحهم الله ، أن دعوته إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والنهي عن عبادة ما سواه فساد بالنسبة إلى اعتقاد القبط ، لعنهم الله . وقرأ بعضهم : [ ص: 82 ] " ويذرك وإلاهتك " أي ; وعبادتك . ويحتمل شيئين ; أحدهما ويذر دينك . وتقويه القراءة الأخرى . الثاني ، ويذر أن يعبدك ، فإنه كان يزعم أنه إله ، لعنه الله قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم أي ; لئلا تكثر مقاتلتهم وإنا فوقهم قاهرون أي ; غالبون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين أي ; إذا هموا هم بأذيتكم والفتك بكم فاستعينوا أنتم بربكم ، واصبروا على بليتكم ، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين أي ; فكونوا أنتم من المتقين ; لتكون لكم العاقبة ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين [ يونس : 84 - 86 ] . وقولهم : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا أي ; قد كانت الأبناء تقتل قبل مجيئك ، وبعد مجيئك إلينا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون وقال الله تعالى في سورة " حم المؤمن " : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب [ غافر : 23 ، 24 ] . وكان فرعون الملك ، وهامان الوزير ، وكان [ ص: 83 ] قارون إسرائيليا من قوم موسى ، إلا أنه كان على دين فرعون وملئه ، وكان ذا مال جزيل جدا ، كما ستأتي قصته فيما بعد ، إن شاء الله تعالى .
فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال [ غافر : 25 ] . وهذا القتل للغلمان ، من بعد بعثة موسى ، إنما كان على وجه الإهانة والإذلال ، والتقليل لملأ بني إسرائيل ; لئلا تكون لهم شوكة يمتنعون بها أو يصولون على القبط بسببها ، وكانت القبط منهم يحذرون ، فلم ينفعهم ذلك ; ولم يرد عنهم قدر الذي يقول للشيء : كن . فيكون . وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد [ غافر : 26 ] . ولهذا يقول الناس على سبيل التهكم : صار فرعون مذكرا . وهذا منه ، فإن فرعون في زعمه يخاف على الناس أن يضلهم موسى ، عليه السلام . وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب [ غافر : 27 ] . أي ; عذت بالله ، ولجأت إليه واستجرت بجنابه من أن يسطو فرعون أو غيره علي بسوء . وقوله : من كل متكبر أي ; جبار عنيد ، لا يرعوي ولا [ ص: 84 ] ينتهي ، ولا يخاف عذاب الله وعقابه ; لأنه لا يعتقد معادا ولا جزاء ، ولهذا قال من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب .
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد [ غافر : 28 ، 29 ] . هذا الرجل هو ابن عم فرعون ، وكان يكتم إيمانه من قومه ، خوفا منهم على نفسه . وزعم بعض الناس أنه كان إسرائيليا ، وهو بعيد ومخالف لسياق الكلام لفظا ومعنى . والله أعلم .
قال ابن جريج : قال ابن عباس : لم يؤمن من القبط بموسى إلا هذا ، والذي جاء من أقصى المدينة ، وامرأة فرعون . رواه ابن أبي حاتم . قال الدارقطني : لا يعرف من اسمه شمعان - بالشين المعجمة - إلا مؤمن آل فرعون . حكاه السهيلي . وفي " تاريخ الطبراني " أن اسمه : جبر . فالله أعلم .
والمقصود أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه ، فلما هم فرعون ، لعنه الله ، [ ص: 85 ] بقتل موسى ، عليه السلام ، وعزم على ذلك وشاور ملأه فيه ، خاف هذا المؤمن على موسى ، فتلطف في رد فرعون بكلام جمع فيه الترغيب والترهيب ، فقال كلمة الحق على وجه المشورة والرأي . وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر وهذا من أعلى مراتب هذا المقام ، فإن فرعون لا يكون أشد جورا منه ، وهذا الكلام لا أعدل منه; لأن فيه عصمة دم نبي . ويحتمل أنه أشار لهم بإظهار إيمانه ، وصرح لهم بما كان يكتمه . والأول أظهر . والله أعلم . قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله أي; من أجل أنه قال : ربي الله . فمثل هذا لا يقابل بمثل هذا ، بل بالإكرام والاحترام والموادعة وترك الانتقام ، يعني : لأنه وقد جاءكم بالبينات من ربكم أي; بالخوارق التي دلت على صدقه فيما جاء به عمن أرسله فهذا إن وادعتموه كنتم في سلامة; لأنه وإن يك كاذبا فعليه كذبه ولا يضركم ذلك وإن يك صادقا وقد تعرضتم له يصبكم بعض الذي يعدكم أي; وأنتم تشفقون أن ينالكم أيسر جزاء مما يتوعدكم به ، فكيف بكم إن حل جميعه عليكم؟ وهذا [ ص: 86 ] الكلام في هذا المقام من أعلى مقامات التلطف والاحتراز والعقل التام . وقوله : ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض يحذرهم أن يسلبوا هذا الملك العزيز ، فإنه ما تعرضت الدول للدين إلا سلبوا ملكهم وذلوا بعد عزهم ، وكذا وقع لآل فرعون; ما زالوا في شك وريب ، ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به ، حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والأملاك والدور والقصور ، والنعمة والحبور ، ثم حولوا إلى البحر مهانين ، ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل السافلين . ولهذا قال هذا الرجل المؤمن الصادق ، البار الراشد ، التابع للحق الناصح لقومه ، الكامل العقل : ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض أي; عالين على الناس حاكمين عليهم ، فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا أي; لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة والقوة والشدة لما نفعنا ذلك ولا رد عنا بأس مالك الممالك . قال فرعون أي; في جواب هذا كله : ما أريكم إلا ما أرى أي; ما أقول لكم إلا ما عندي وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وكذب في كل من هذين القولين ، وهاتين المقدمتين ، فإنه قد كان يتحقق ويعلم في باطنه وفي نفسه أن هذا الذي جاء به موسى حق من عند الله لا محالة ، وإنما كان يظهر خلافه بغيا وعدوانا ، وعتوا وكفرانا .
قال الله تعالى إخبارا عن موسى : [ ص: 87 ] قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ الإسراء : 102 ] . وقال تعالى : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ النمل : 13 ، 14 ] . وأما قوله : وما أهديكم إلا سبيل الرشاد . فقد كذب أيضا ، فإنه لم يكن على رشاد من الأمر ، بل كان على سفه وضلال ، وخبال ، وكان أولا ممن يعبد الأصنام والأمثال ، ثم دعا قومه الجهلة الضلال إلى أن اتبعوه وطاوعوه ، وصدقوه فيما زعم من الكفر المحال في دعواه أنه رب ، تعالى الله ذو الجلال والإكرام . قال الله تعالى : ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين [ الزخرف : 51 - 56 ] . وقال تعالى : فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى [ النازعات : 20 - 26 ] . وقال تعالى : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملإيه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود [ هود : 96 - 99 ] . والمقصود بيان كذبه في قوله : ما أريكم إلا ما أرى وفي قوله : وما أهديكم إلا سبيل الرشاد .
[ ص: 88 ] قال رب انصرني على القوم المفسدين ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ العنكبوت : 30 - 35 ] . يحذرهم ولي الله ، إن كذبوا برسول الله موسى ، أن يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم من النقمات والمثلات ، مما تواتر عندهم وعند غيرهم; ما حل بقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، ومن بعدهم إلى زمانهم ذلك ، مما أقام الله به الحجج على أهل الأرض قاطبة ، في صدق ما جاءت به الأنبياء ، بما أنزل من النقمة بمكذبيهم من الأعداء ، وما أنجى الله من اتبعهم من الأولياء ، وخوفهم يوم القيامة ، وهو يوم التناد أي; حين ينادي الناس بعضهم بعضا حين يولون مدبرين إن قدروا على ذلك ، ولا إلى ذلك سبيل . يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر [ القيامة : 10 - 12 ] . وقال تعالى : يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان [ ص: 89 ] [ الرحمن : 33 - 36 ] . وقرأ بعضهم : ( يوم التناد ) بتشديد الدال ، أي يوم الفرار . ويحتمل أن يكون يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون يوم يحل الله بهم البأس ، فيودون الفرار ولات حين مناص . فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون [ الأنبياء : 12 ، 13 ] . ثم أخبرهم عن نبوة يوسف في بلاد مصر; ما كان منه من الإحسان إلى الخلق في دنياهم وأخراهم ، وهذا من سلالته وذريته ، ويدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته ، وأن لا يشركوا به أحدا من بريته ، وأخبر عن أهل الديار المصرية في ذلك الزمان ، أن من سجيتهم التكذيب بالحق ومخالفة الرسل; ولهذا قال : فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا أي; وكذبتم في هذا . ولهذا قال : كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم أي; يردون حجج الله وبراهينه ودلائل توحيده بلا حجة ولا دليل عندهم من الله ، فإن هذا أمر يمقته الله غاية المقت; أي يبغض من تلبس به من الناس ، ومن اتصف به من الخلق ، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار قرئ بالإضافة وبالنعت ، وكلاهما متلازم; أي هكذا إذا خالفت القلوب الحق ، ولا تخالفه إلا بلا برهان ، فإن الله يطبع عليها; أي يختم عليها .
[ ص: 90 ] وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب [ غافر : 36 ، 37 ] . كذب فرعون موسى ، عليه السلام ، في دعواه أن الله أرسله ، وزعم فرعون لقومه ما كذبه وافتراه ، في قوله لهم : ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين [ القصص : 38 ] . وقال هاهنا : لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات أي; طرقها ومسالكها فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ويحتمل هذا معنيين; أحدهما ، وإني لأظنه كاذبا في قوله : إن للعالم ربا غيري . والثاني ، في دعواه أن الله أرسله . والأول أشبه بظاهر حال فرعون ، فإنه كان ينكر ظاهر إثبات الصانع ، والثاني أقرب إلى اللفظ; حيث قال : فأطلع إلى إله موسى أي; فأسأله هل أرسله أم لا ، وإني لأظنه كاذبا أي; في دعواه ذلك . وإنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى ، عليه السلام ، وأن يحثهم على تكذيبه . قال الله تعالى : وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وقرئ : ( وصد عن السبيل ) قال ابن عباس ومجاهد : يقول : إلا في خسار . أي باطل ، لا يحصل له شيء من مقصوده الذي رامه ، فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى نيل السماء أبدا - أعني السماء الدنيا - فكيف بما بعدها من السماوات العلى ، وما فوق [ ص: 91 ] ذلك من الارتفاع الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل .
وذكر غير واحد من المفسرين أن هذا الصرح ، وهو القصر الذي بناه وزيره هامان له ، لم ير بناء أعلى منه ، وأنه كان مبنيا من الآجر المشوي بالنار ، ولهذا قال : فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا وعند أهل الكتاب أن بني إسرائيل كانوا يسخرون في ضرب اللبن ، وكان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شيء مما يحتاجون إليه فيه ، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه ، ويطلب منهم كل يوم قسط معين ، إن لم يفعلوه وإلا ضربوا وأهينوا غاية الإهانة ، وأوذوا غاية الأذية . ولهذا قالوا لموسى : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون فوعدهم بأن العاقبة لهم على القبط ، وكذلك وقع ، وهذا من دلائل النبوة .
ولنرجع إلى نصيحة المؤمن وموعظته واحتجاجه ، قال الله تعالى : وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [ غافر : 38 - 40 ] . يدعوهم ، رضي الله عنه ، إلى طريق الرشاد والحق ، وهي متابعة نبي الله [ ص: 92 ] موسى ، وتصديقه فيما جاء به من ربه ، ثم زهدهم في الدنيا الدنية الفانية المنقضية لا محالة ، ورغبهم في طلب الثواب عند الله ، الذي لا يضيع عمل عامل لديه ، القدير الذي ملكوت كل شيء بيديه ، الذي يعطي على القليل كثيرا ، ومن عدله لا يجازى على السيئة إلا مثلها . وأخبرهم أن الآخرة هي دار القرار ، التي من وافاها مؤمنا قد عمل الصالحات ، فلهم الجنات العاليات ، والغرف الآمنات ، والخيرات الكثيرة الفائقات ، والأرزاق الدائمة التي لا تبيد ، والخير الذي كل ما لهم منه في مزيد .
ثم شرع في إبطال ما هم عليه ، وتخويفهم مما يصيرون إليه فقال : ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ غافر : 41 - 46 ] . كان يدعوهم إلى عبادة رب السماوات والأرض الذي يقول للشيء : كن . فيكون ، وهم يدعونه إلى عبادة فرعون الجاهل الضال الملعون ، ولهذا قال لهم على سبيل الإنكار : ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ، [ ص: 93 ] ثم بين لهم بطلان ما هم عليه من عبادة ما سوى الله من الأنداد والأوثان ، وأنها لا تملك من نفع ولا إضرار . فقال : لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار أي; لا تملك تصرفا ولا حكما في هذه الدار ، فكيف تملكه يوم القرار؟ وأما الله عز وجل فإنه الخالق الرازق للأبرار والفجار ، وهو الذي أحيا العباد ويميتهم ويبعثهم ، فيدخل طائعهم الجنة وعاصيهم النار . ثم توعدهم إن هم استمروا على العناد بقوله : فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد قال الله تعالى : فوقاه الله سيئات ما مكروا أي; بإنكاره سلم مما أصابهم من العقوبة على كفرهم بالله ، ومكرهم في صدهم عن سبيل الله مما أظهروا للعامة من الخيالات والمحالات التي لبسوا بها على عوامهم وطغامهم; ولهذا قال : وحاق أي; أحاط بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا أي; تعرض أرواحهم في برزخهم صباحا ومساء على النار ، ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وقد تكلمنا على دلالة هذه الآية على عذاب القبر في " التفسير " . ولله الحمد .
والمقصود أن الله تعالى لم يهلكهم إلا بعد إقامة الحجج عليهم ، وإرسال الرسول إليهم ، وإزاحة الشبه عنهم ، وأخذ الحجة عليهم منهم ، فبالترهيب تارة [ ص: 94 ] والترغيب أخرى ، كما قال تعالى : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين الأعراف : 130 - 133 ] . يخبر تعالى أنه ابتلى آل فرعون ، وهم قومه من القبط ، بالسنين ، وهي أعوام الجدب التي لا يستغل فيها زرع ولا ينتفع بضرع . وقوله : ونقص من الثمرات وهي قلة الثمار من الأشجار ، لعلهم يذكرون أي; فلم ينتفعوا ولم يرعووا ، بل تمردوا واستمروا على كفرهم وعنادهم فإذا جاءتهم الحسنة وهو الخصب ونحوه قالوا لنا هذه أي; هذا الذي نستحقه وهذا الذي يليق بنا ، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه أي; يقولون هذا; بشؤمهم أصابنا هذا . ولا يقولون في الأول : إنه بركتهم وحسن مجاورتهم ، ولكن قلوبهم منكرة مستكبرة نافرة عن الحق ، إذا جاء الشر أسندوه إليه ، وإن رأوا خيرا ادعوه لأنفسهم . قال الله تعالى : ألا إنما طائرهم عند الله أي; الله يجزيهم على هذا أوفر الجزاء ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين أي; مهما جئتنا به من الآيات ، وهي الخوارق للعادات فلسنا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نطيعك ولو جئتنا بكل آية . وهكذا أخبر الله عنهم في [ ص: 95 ] قوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ يونس : 96 ، 97 ] . قال الله تعالى : فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 4:59 pm | |
| ﴿ (60) تحريض فرعون على قتل موسى وإسلام السحرة ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
ولما وقع ما وقع من الأمر العظيم ، وهو الغلب الذي غلبه فرعون وقومه من القبط في ذلك الموقف الهائل ، وأسلم السحرة ، الذين استنصروا ربهم لم يزدهم ذلك إلا كفرا وعنادا وبعدا عن الحق .
قال الله تعالى ، بعد قصص ما تقدم في سورة " الأعراف " : وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون [ الأعراف : 127 - 129 ] . يخبر تعالى عن الملأ من قوم فرعون ، وهم الأمراء والكبراء ، أنهم حرضوا ملكهم فرعون على أذية نبي الله موسى ، عليه السلام ، ومقابلته - بدل التصديق بما جاء به - بالكفر والرد والأذى ، فقالوا أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك يعنون ، قبحهم الله ، أن دعوته إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والنهي عن عبادة ما سواه فساد بالنسبة إلى اعتقاد القبط ، لعنهم الله . وقرأ بعضهم : [ ص: 82 ] " ويذرك وإلاهتك " أي ; وعبادتك . ويحتمل شيئين ; أحدهما ويذر دينك . وتقويه القراءة الأخرى . الثاني ، ويذر أن يعبدك ، فإنه كان يزعم أنه إله ، لعنه الله قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم أي ; لئلا تكثر مقاتلتهم وإنا فوقهم قاهرون أي ; غالبون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين أي ; إذا هموا هم بأذيتكم والفتك بكم فاستعينوا أنتم بربكم ، واصبروا على بليتكم ، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين أي ; فكونوا أنتم من المتقين ; لتكون لكم العاقبة ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين [ يونس : 84 - 86 ] . وقولهم : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا أي ; قد كانت الأبناء تقتل قبل مجيئك ، وبعد مجيئك إلينا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون وقال الله تعالى في سورة " حم المؤمن " : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب [ غافر : 23 ، 24 ] . وكان فرعون الملك ، وهامان الوزير ، وكان [ ص: 83 ] قارون إسرائيليا من قوم موسى ، إلا أنه كان على دين فرعون وملئه ، وكان ذا مال جزيل جدا ، كما ستأتي قصته فيما بعد ، إن شاء الله تعالى .
فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال [ غافر : 25 ] . وهذا القتل للغلمان ، من بعد بعثة موسى ، إنما كان على وجه الإهانة والإذلال ، والتقليل لملأ بني إسرائيل ; لئلا تكون لهم شوكة يمتنعون بها أو يصولون على القبط بسببها ، وكانت القبط منهم يحذرون ، فلم ينفعهم ذلك ; ولم يرد عنهم قدر الذي يقول للشيء : كن . فيكون . وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد [ غافر : 26 ] . ولهذا يقول الناس على سبيل التهكم : صار فرعون مذكرا . وهذا منه ، فإن فرعون في زعمه يخاف على الناس أن يضلهم موسى ، عليه السلام . وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب [ غافر : 27 ] . أي ; عذت بالله ، ولجأت إليه واستجرت بجنابه من أن يسطو فرعون أو غيره علي بسوء . وقوله : من كل متكبر أي ; جبار عنيد ، لا يرعوي ولا [ ص: 84 ] ينتهي ، ولا يخاف عذاب الله وعقابه ; لأنه لا يعتقد معادا ولا جزاء ، ولهذا قال من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب .
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد [ غافر : 28 ، 29 ] . هذا الرجل هو ابن عم فرعون ، وكان يكتم إيمانه من قومه ، خوفا منهم على نفسه . وزعم بعض الناس أنه كان إسرائيليا ، وهو بعيد ومخالف لسياق الكلام لفظا ومعنى . والله أعلم .
قال ابن جريج : قال ابن عباس : لم يؤمن من القبط بموسى إلا هذا ، والذي جاء من أقصى المدينة ، وامرأة فرعون . رواه ابن أبي حاتم . قال الدارقطني : لا يعرف من اسمه شمعان - بالشين المعجمة - إلا مؤمن آل فرعون . حكاه السهيلي . وفي " تاريخ الطبراني " أن اسمه : جبر . فالله أعلم .
والمقصود أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه ، فلما هم فرعون ، لعنه الله ، [ ص: 85 ] بقتل موسى ، عليه السلام ، وعزم على ذلك وشاور ملأه فيه ، خاف هذا المؤمن على موسى ، فتلطف في رد فرعون بكلام جمع فيه الترغيب والترهيب ، فقال كلمة الحق على وجه المشورة والرأي . وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر وهذا من أعلى مراتب هذا المقام ، فإن فرعون لا يكون أشد جورا منه ، وهذا الكلام لا أعدل منه; لأن فيه عصمة دم نبي . ويحتمل أنه أشار لهم بإظهار إيمانه ، وصرح لهم بما كان يكتمه . والأول أظهر . والله أعلم . قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله أي; من أجل أنه قال : ربي الله . فمثل هذا لا يقابل بمثل هذا ، بل بالإكرام والاحترام والموادعة وترك الانتقام ، يعني : لأنه وقد جاءكم بالبينات من ربكم أي; بالخوارق التي دلت على صدقه فيما جاء به عمن أرسله فهذا إن وادعتموه كنتم في سلامة; لأنه وإن يك كاذبا فعليه كذبه ولا يضركم ذلك وإن يك صادقا وقد تعرضتم له يصبكم بعض الذي يعدكم أي; وأنتم تشفقون أن ينالكم أيسر جزاء مما يتوعدكم به ، فكيف بكم إن حل جميعه عليكم؟ وهذا [ ص: 86 ] الكلام في هذا المقام من أعلى مقامات التلطف والاحتراز والعقل التام . وقوله : ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض يحذرهم أن يسلبوا هذا الملك العزيز ، فإنه ما تعرضت الدول للدين إلا سلبوا ملكهم وذلوا بعد عزهم ، وكذا وقع لآل فرعون; ما زالوا في شك وريب ، ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به ، حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والأملاك والدور والقصور ، والنعمة والحبور ، ثم حولوا إلى البحر مهانين ، ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل السافلين . ولهذا قال هذا الرجل المؤمن الصادق ، البار الراشد ، التابع للحق الناصح لقومه ، الكامل العقل : ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض أي; عالين على الناس حاكمين عليهم ، فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا أي; لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة والقوة والشدة لما نفعنا ذلك ولا رد عنا بأس مالك الممالك . قال فرعون أي; في جواب هذا كله : ما أريكم إلا ما أرى أي; ما أقول لكم إلا ما عندي وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وكذب في كل من هذين القولين ، وهاتين المقدمتين ، فإنه قد كان يتحقق ويعلم في باطنه وفي نفسه أن هذا الذي جاء به موسى حق من عند الله لا محالة ، وإنما كان يظهر خلافه بغيا وعدوانا ، وعتوا وكفرانا .
قال الله تعالى إخبارا عن موسى : [ ص: 87 ] قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ الإسراء : 102 ] . وقال تعالى : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ النمل : 13 ، 14 ] . وأما قوله : وما أهديكم إلا سبيل الرشاد . فقد كذب أيضا ، فإنه لم يكن على رشاد من الأمر ، بل كان على سفه وضلال ، وخبال ، وكان أولا ممن يعبد الأصنام والأمثال ، ثم دعا قومه الجهلة الضلال إلى أن اتبعوه وطاوعوه ، وصدقوه فيما زعم من الكفر المحال في دعواه أنه رب ، تعالى الله ذو الجلال والإكرام . قال الله تعالى : ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين [ الزخرف : 51 - 56 ] . وقال تعالى : فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى [ النازعات : 20 - 26 ] . وقال تعالى : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملإيه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود [ هود : 96 - 99 ] . والمقصود بيان كذبه في قوله : ما أريكم إلا ما أرى وفي قوله : وما أهديكم إلا سبيل الرشاد .
[ ص: 88 ] قال رب انصرني على القوم المفسدين ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ العنكبوت : 30 - 35 ] . يحذرهم ولي الله ، إن كذبوا برسول الله موسى ، أن يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم من النقمات والمثلات ، مما تواتر عندهم وعند غيرهم; ما حل بقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، ومن بعدهم إلى زمانهم ذلك ، مما أقام الله به الحجج على أهل الأرض قاطبة ، في صدق ما جاءت به الأنبياء ، بما أنزل من النقمة بمكذبيهم من الأعداء ، وما أنجى الله من اتبعهم من الأولياء ، وخوفهم يوم القيامة ، وهو يوم التناد أي; حين ينادي الناس بعضهم بعضا حين يولون مدبرين إن قدروا على ذلك ، ولا إلى ذلك سبيل . يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر [ القيامة : 10 - 12 ] . وقال تعالى : يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان [ ص: 89 ] [ الرحمن : 33 - 36 ] . وقرأ بعضهم : ( يوم التناد ) بتشديد الدال ، أي يوم الفرار . ويحتمل أن يكون يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون يوم يحل الله بهم البأس ، فيودون الفرار ولات حين مناص . فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون [ الأنبياء : 12 ، 13 ] . ثم أخبرهم عن نبوة يوسف في بلاد مصر; ما كان منه من الإحسان إلى الخلق في دنياهم وأخراهم ، وهذا من سلالته وذريته ، ويدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته ، وأن لا يشركوا به أحدا من بريته ، وأخبر عن أهل الديار المصرية في ذلك الزمان ، أن من سجيتهم التكذيب بالحق ومخالفة الرسل; ولهذا قال : فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا أي; وكذبتم في هذا . ولهذا قال : كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم أي; يردون حجج الله وبراهينه ودلائل توحيده بلا حجة ولا دليل عندهم من الله ، فإن هذا أمر يمقته الله غاية المقت; أي يبغض من تلبس به من الناس ، ومن اتصف به من الخلق ، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار قرئ بالإضافة وبالنعت ، وكلاهما متلازم; أي هكذا إذا خالفت القلوب الحق ، ولا تخالفه إلا بلا برهان ، فإن الله يطبع عليها; أي يختم عليها .
[ ص: 90 ] وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب [ غافر : 36 ، 37 ] . كذب فرعون موسى ، عليه السلام ، في دعواه أن الله أرسله ، وزعم فرعون لقومه ما كذبه وافتراه ، في قوله لهم : ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين [ القصص : 38 ] . وقال هاهنا : لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات أي; طرقها ومسالكها فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ويحتمل هذا معنيين; أحدهما ، وإني لأظنه كاذبا في قوله : إن للعالم ربا غيري . والثاني ، في دعواه أن الله أرسله . والأول أشبه بظاهر حال فرعون ، فإنه كان ينكر ظاهر إثبات الصانع ، والثاني أقرب إلى اللفظ; حيث قال : فأطلع إلى إله موسى أي; فأسأله هل أرسله أم لا ، وإني لأظنه كاذبا أي; في دعواه ذلك . وإنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى ، عليه السلام ، وأن يحثهم على تكذيبه . قال الله تعالى : وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وقرئ : ( وصد عن السبيل ) قال ابن عباس ومجاهد : يقول : إلا في خسار . أي باطل ، لا يحصل له شيء من مقصوده الذي رامه ، فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى نيل السماء أبدا - أعني السماء الدنيا - فكيف بما بعدها من السماوات العلى ، وما فوق [ ص: 91 ] ذلك من الارتفاع الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل .
وذكر غير واحد من المفسرين أن هذا الصرح ، وهو القصر الذي بناه وزيره هامان له ، لم ير بناء أعلى منه ، وأنه كان مبنيا من الآجر المشوي بالنار ، ولهذا قال : فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا وعند أهل الكتاب أن بني إسرائيل كانوا يسخرون في ضرب اللبن ، وكان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شيء مما يحتاجون إليه فيه ، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه ، ويطلب منهم كل يوم قسط معين ، إن لم يفعلوه وإلا ضربوا وأهينوا غاية الإهانة ، وأوذوا غاية الأذية . ولهذا قالوا لموسى : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون فوعدهم بأن العاقبة لهم على القبط ، وكذلك وقع ، وهذا من دلائل النبوة .
ولنرجع إلى نصيحة المؤمن وموعظته واحتجاجه ، قال الله تعالى : وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [ غافر : 38 - 40 ] . يدعوهم ، رضي الله عنه ، إلى طريق الرشاد والحق ، وهي متابعة نبي الله [ ص: 92 ] موسى ، وتصديقه فيما جاء به من ربه ، ثم زهدهم في الدنيا الدنية الفانية المنقضية لا محالة ، ورغبهم في طلب الثواب عند الله ، الذي لا يضيع عمل عامل لديه ، القدير الذي ملكوت كل شيء بيديه ، الذي يعطي على القليل كثيرا ، ومن عدله لا يجازى على السيئة إلا مثلها . وأخبرهم أن الآخرة هي دار القرار ، التي من وافاها مؤمنا قد عمل الصالحات ، فلهم الجنات العاليات ، والغرف الآمنات ، والخيرات الكثيرة الفائقات ، والأرزاق الدائمة التي لا تبيد ، والخير الذي كل ما لهم منه في مزيد .
ثم شرع في إبطال ما هم عليه ، وتخويفهم مما يصيرون إليه فقال : ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ غافر : 41 - 46 ] . كان يدعوهم إلى عبادة رب السماوات والأرض الذي يقول للشيء : كن . فيكون ، وهم يدعونه إلى عبادة فرعون الجاهل الضال الملعون ، ولهذا قال لهم على سبيل الإنكار : ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ، [ ص: 93 ] ثم بين لهم بطلان ما هم عليه من عبادة ما سوى الله من الأنداد والأوثان ، وأنها لا تملك من نفع ولا إضرار . فقال : لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار أي; لا تملك تصرفا ولا حكما في هذه الدار ، فكيف تملكه يوم القرار؟ وأما الله عز وجل فإنه الخالق الرازق للأبرار والفجار ، وهو الذي أحيا العباد ويميتهم ويبعثهم ، فيدخل طائعهم الجنة وعاصيهم النار . ثم توعدهم إن هم استمروا على العناد بقوله : فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد قال الله تعالى : فوقاه الله سيئات ما مكروا أي; بإنكاره سلم مما أصابهم من العقوبة على كفرهم بالله ، ومكرهم في صدهم عن سبيل الله مما أظهروا للعامة من الخيالات والمحالات التي لبسوا بها على عوامهم وطغامهم; ولهذا قال : وحاق أي; أحاط بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا أي; تعرض أرواحهم في برزخهم صباحا ومساء على النار ، ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وقد تكلمنا على دلالة هذه الآية على عذاب القبر في " التفسير " . ولله الحمد .
والمقصود أن الله تعالى لم يهلكهم إلا بعد إقامة الحجج عليهم ، وإرسال الرسول إليهم ، وإزاحة الشبه عنهم ، وأخذ الحجة عليهم منهم ، فبالترهيب تارة [ ص: 94 ] والترغيب أخرى ، كما قال تعالى : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين الأعراف : 130 - 133 ] . يخبر تعالى أنه ابتلى آل فرعون ، وهم قومه من القبط ، بالسنين ، وهي أعوام الجدب التي لا يستغل فيها زرع ولا ينتفع بضرع . وقوله : ونقص من الثمرات وهي قلة الثمار من الأشجار ، لعلهم يذكرون أي; فلم ينتفعوا ولم يرعووا ، بل تمردوا واستمروا على كفرهم وعنادهم فإذا جاءتهم الحسنة وهو الخصب ونحوه قالوا لنا هذه أي; هذا الذي نستحقه وهذا الذي يليق بنا ، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه أي; يقولون هذا; بشؤمهم أصابنا هذا . ولا يقولون في الأول : إنه بركتهم وحسن مجاورتهم ، ولكن قلوبهم منكرة مستكبرة نافرة عن الحق ، إذا جاء الشر أسندوه إليه ، وإن رأوا خيرا ادعوه لأنفسهم . قال الله تعالى : ألا إنما طائرهم عند الله أي; الله يجزيهم على هذا أوفر الجزاء ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين أي; مهما جئتنا به من الآيات ، وهي الخوارق للعادات فلسنا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نطيعك ولو جئتنا بكل آية . وهكذا أخبر الله عنهم في [ ص: 95 ] قوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ يونس : 96 ، 97 ] . قال الله تعالى : فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين .
أما الطوفان ، فعن ابن عباس : هو كثرة الأمطار المتلفة للزروع والثمار . وبه قال سعيد بن جبير ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك . وعن ابن عباس ، وعطاء : هو كثرة الموت . وقال مجاهد : الطوفان الماء ، والطاعون على كل حال . وعن ابن عباس : أمر طاف بهم . وقد روى ابن جرير وابن مردويه ، من طريق يحيى بن يمان عن المنهال بن خليفة ، عن الحجاج ، عن الحكم بن ميناء ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : الطوفان الموت وهو غريب .
وأما الجراد فمعروف . وقد روى أبو داود ، عن أبي عثمان ، عن سلمان الفارسي ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد ، فقال : أكثر جنود الله ، لا آكله ولا أحرمه وترك النبي صلى الله عليه وسلم أكله إنما هو على وجه التقذر له; كما ترك أكل الضب ، وتنزه عن أكل البصل والثوم والكراث ، لما ثبت في [ ص: 96 ] " الصحيحين " ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد . وقد تكلمنا على ما ورد فيه من الأحاديث والآثار في " التفسير " .
والمقصود أنه استاق خضراءهم ، فلم يترك لهم زروعا ولا ثمارا ، ولا سبدا ولا لبدا .
وأما القمل ، فعن ابن عباس : هو السوس الذي يخرج من الحنطة ، وعنه ، أنه الجراد الصغار الذي لا أجنحة له . وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة . وقال سعيد بن جبير ، والحسن : هو دواب سود صغار . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي البراغيث . وحكى ابن جرير عن أهل العربية أنها الحمنان . وهو صغار القردان فوق القمقامة ، فدخل معهم البيوت والفرش ، فلم يقر لهم قرار ، ولم يمكنهم معه الغمض ولا العيش . وفسره عطاء بن السائب بهذا القمل المعروف . وقرأها الحسن البصري كذلك بالتخفيف .
وأما الضفادع فمعروفة ، لبستهم حتى كانت تسقط في أطعماتهم وأوانيهم ، حتى إن أحدهم إذا فتح فمه لطعام أو شراب ، سقطت في فيه ضفدعة من تلك الضفادع .
[ ص: 97 ] وأما الدم فكان قد مزج ماؤهم كله به ، فلا يستقون من النيل شيئا إلا وجدوه دما عبيطا ، ولا من نهر ولا بئر ولا شيء إلا كان دما في الساعة الراهنة . هذا كله ، ولم ينل بني إسرائيل من ذلك شيء بالكلية . وهذا من تمام المعجزة الباهرة ، والحجة القاطعة أن هذا كله يحصل لهم عن فعلموسى ، عليه السلام ، فينالهم عن آخرهم ، ولا يحصل هذا لأحد من بني إسرائيل ، وفي هذا أدل دليل .
قال محمد بن إسحاق : فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مفلولا ، ثم أبى إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر ، فتابع الله عليه بالآيات ، فأخذه بالسنين ، فأرسل عليه الطوفان ، ثم الجراد ، ثم القمل ، ثم الضفادع ، ثم الدم آيات مفصلات; فأرسل الطوفان - وهو الماء - ففاض على وجه الأرض ثم ركد لا يقدرون على أن يحرثوا ولا أن يعملوا شيئا ، حتى جهدوا جوعا ، فلما بلغهم ذلك ، ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل [ الأعراف : 134 ] . فدعا موسى ربه ، فكشفه عنهم ، فلما لم يفوا له بشيء ، فأرسل الله عليهم الجراد ، فأكل الشجر ، فيما بلغني ، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد ، حتى تقع دورهم ومساكنهم ، فقالوا مثل ما قالوا ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم القمل ، فذكر لي أن موسى ، عليه السلام ، أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم ، فضربه بها ، فانثال [ ص: 98 ] عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة ، ومنعهم النوم والقرار ، فلما جهدهم ، قالوا له مثل ما قالوا له ، فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فلما لم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الضفادع ، فملأت البيوت والأطعمة والآنية ، فلم يكشف أحد ثوبا ولا طعاما إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه ، فلما جهدهم ذلك ، قالوا له مثل ما قالوا ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دما ، لا يستقون من بئر ، ولا نهر ولا يغترفون من إناء ، إلا عاد دما عبيطا . وقال زيد بن أسلم : المراد بالدم الرعاف . رواه ابن أبي حاتم .
قال الله تعالى : ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين [ الأعراف : 134 - 136 ] . يخبر تعالى ، عن كفرهم وعتوهم واستمرارهم على الضلال والجهل ، والاستكبار عن اتباع آيات الله ، وتصديق رسوله ، مع ما أيد به من الآيات العظيمة الباهرة والحجج البليغة القاهرة ، التي أراهم الله إياها عيانا ، وجعلها عليهم دليلا وبرهانا ، وكلما شاهدوا آية وعاينوها وجهدتهم وأضنكتهم ، حلفوا وعاهدوا موسى; لئن كشف عنهم [ ص: 99 ] هذه ليؤمنن به ، وليرسلن معه من هو من حزبه ، فكلما رفعت عنهم تلك الآية عادوا إلى شر مما كانوا عليه ، وأعرضوا عما جاءهم به من الحق ، ولم يلتفتوا إليه ، فيرسل الله عليهم آية أخرى ، هي أشد مما كانت قبلها وأقوى ، فيقولون ، فيكذبون . ويعدون ولا يفون لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فيكشف عنهم ذلك العذاب الوبيل . ثم يعودون إلى جهلهم العريض الطويل . هذا ، والعظيم الحليم القدير ينظرهم ولا يعجل عليهم ، ويؤخرهم ويتقدم بالوعيد إليهم ، ثم أخذهم - بعد إقامة الحجة عليهم ، والإعذار إليهم - أخذ عزيز مقتدر ، فجعلهم عبرة ونكالا وسلفا لمن أشبههم من الكافرين ، ومثلا لمن اتعظ بهم من عباده المؤمنين .
وقال الله تبارك وتعالى ، وهو أصدق القائلين في سورة " حم والكتاب المبين " : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين [ الزخرف : 46 - 56 ] .
. [ ص: 100 ] يذكر تعالى إرساله عبده الكليم الكريم ، إلى فرعون الخسيس اللئيم ، وأنه تعالى أيد رسوله بآيات بينات واضحات ، تستحق أن تقابل بالتصديق والتعظيم ، وأن يرتدعوا عما هم فيه من الكفر ، ويرجعوا إلى الحق والصراط المستقيم ، فإذا هم منها يضحكون ، وبها يستهزئون ، وعن سبيل الله يصدون ، وعن الحق يحيدون ، فأرسل الله عليهم الآيات تترى ، يتبع بعضها بعضا ، وكل آية أكبر من أختها التي تتلوها; لأن المؤكد أبلغ مما قبله ، وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون لم يكن لفظ الساحر في زمانهم نقصا ولا عيبا; لأن علماءهم ، في ذلك الوقت ، هم السحرة; ولهذا خاطبوه به في حال احتياجهم إليه ، وضراعتهم لديه ، قال الله تعالى : فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ثم أخبر تعالى عن تبجح فرعون بملكه وعظمة بلده وحسنها وتخرق الأنهار فيها ، وهي الخلجان التي يكسرونها أمام زيادة النيل ثم تبجح بنفسه وحليته وأخذ يتنقص رسول الله موسى ، عليه السلام ، ويزدريه بكونه ولا يكاد يبين يعني كلامه ، بسبب ما كان في لسانه من بقية تلك اللثغة ، التي هي شرف له ، وكمال وجمال ، ولم تكن مانعة له أن كلمه الله تعالى ، وأوحى إليه ، وأنزل بعد ذلك التوراة عليه ، وتنقصه فرعون ، لعنه الله ، بكونه لا [ ص: 101 ] أساور في يديه ولا زينة عليه ، وإنما ذلك من حلية النساء ، لا يليق بشهامة الرجال ، فكيف بالرسل الذين هم أكمل عقلا ، وأتم معرفة ، وأعلى همة ، وأزهد في الدنيا ، وأعلم بما أعد الله لأوليائه في الأخرى . وقوله : أو جاء معه الملائكة مقترنين لا يحتاج الأمر إلى ذلك إن كان المراد أن تعظمه الملائكة . فالملائكة يعظمون ويتواضعون لمن هو دون موسى عليه السلام ، بكثير كما جاء في الحديث : إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع فكيف يكون تواضعهم وتعظيمهم لموسى الكليم ، عليه الصلاة والتسليم والتكريم؟ وإن كان المراد شهادتهم له بالرسالة ، فقد أيد من المعجزات بما يدل قطعا لذوي الألباب ، ولمن قصد إلى الحق والصواب ، ويعمى عما جاء به من البينات والحجج الواضحات ، من نظر إلى القشور ، وترك لب اللباب ، وطبع على قلبه رب الأرباب ، وختم عليه بما فيه من الشك والارتياب ، كما هو حال فرعون القبطي العمي الكذاب ، قال الله تعالى : فاستخف قومه فأطاعوه أي; استخف عقولهم ، ودرجهم من حال إلى حال ، إلى أن صدقوه في دعواه الربوبية ، لعنه الله وقبحهم ، إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا أي; أغضبونا; انتقمنا منهم أي; بالغرق والإهانة ، وسلب العز ، والتبدل بالذل وبالعذاب بعد النعمة ، والهوان بعد الرفاهية ، والنار بعد طيب العيش ، عياذا بالله العظيم وسلطانه القديم من ذلك ، فجعلناهم سلفا أي; لمن اتبعهم في الصفات ، ومثلا أي; لمن اتعظ بهم ، وخاف من وبيل [ ص: 102 ] مصرعهم ، ممن بلغه جلية خبرهم ، وما كان من أمرهم; كما قال الله تعالى : فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين [ القصص : 36 - 42 ] . يخبر تعالى أنهم لما استكبروا عن اتباع الحق ، وادعى ملكهم الباطل ، ووافقوه عليه ، وأطاعوه فيه ، اشتد غضب الرب القدير العزيز ، الذي لا يغالب ولا يمانع ، عليهم ، فانتقم منهم أشد الانتقام ، وأغرقه هو وجنوده في صبيحة واحدة ، فلم يفلت منهم أحد ، ولم يبق منهم ديار ، بل كان قد غرق ، فدخل النار ، وأتبعوا في هذه الدار لعنة بين العالمين ، ويوم القيامة ، بئس الرفد المرفود ، ويوم القيامة هم من المقبوحين .
﴿ (61) ذكر هلاك فرعون وجنوده ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
لما تمادى قبط مصر على كفرهم ، وعتوهم ، وعنادهم ، متابعة لملكهم فرعون ، ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه ، موسى بن عمران ، عليه السلام ، وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحير العقول ، وهم مع ذلك لا يرعوون ، ولا ينتهون ، ولا ينزعون ، ولا يرجعون ، ولم يؤمن منهم إلا القليل ، قيل : ثلاثة; وهم امرأة فرعون ، ولا علم لأهل الكتاب بخبرها ، ومؤمن آل فرعون ، الذي تقدم حكاية موعظته ، ومشورته ، وحجته عليهم ، والرجل الناصح ، الذي جاء يسعى من أقصى المدينة ، فقال : ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين قاله ابن عباس ، فيما رواه ابن أبي حاتم عنه . ومراده غير السحرة ، فإنهم كانوا من القبط . وقيل : بل آمن به طائفة من القبط من قوم فرعون ، والسحرة كلهم ، وجميع شعب بني إسرائيل . ويدل على هذا قوله تعالى : فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين [ يونس : 83 ] . فالضمير في قوله : إلا ذرية من قومه عائد على فرعون; [ ص: 104 ] لأن السياق يدل عليه . وقيل : على موسى; لقربه . والأول أظهر ، كما هو مقرر في " التفسير " . وإيمانهم كان خفية; لمخافتهم من فرعون وسطوته ، وجبروته وسلطته ، ومن ملئهم أن ينموا عليهم إليه ، فيفتنهم عن دينهم ، قال الله تعالى مخبرا عن فرعون ، وكفى بالله شهيدا : وإن فرعون لعال في الأرض أي; جبار ، عنيد ، مستعل بغير الحق ، وإنه لمن المسرفين أي; في جميع أموره وشئونه وأحواله ، ولكنه جرثومة قد حان انجعافها ، وثمرة خبيثة قد آن قطافها ، ومهجة ملعونة قد حتم إتلافها . وعند ذلك قال موسى : وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين [ يونس 84 - 86 ] . يأمرهم بالتوكل على الله ، والاستعانة به والالتجاء إليه ، فأتمروا بذلك ، فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا . وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون ، عليهما السلام ، أن يتخذوا لقومهما بيوتا متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط; ليكونوا على أهبة من الرحيل ، إذا أمروا به ، ليعرف بعضهم بيوت بعض . وقوله : واجعلوا بيوتكم قبلة قيل : مساجد . وقيل : معناه كثرة الصلاة فيها . قاله مجاهد ، وأبو مالك ، وإبراهيم النخعي ، والربيع ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن ، وغيرهم . [ ص: 105 ] ومعناه على هذا الاستعانة على ما هم فيه من الضر ، والشدة ، والضيق ، بكثرة الصلاة; كما قال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة : 45 ] . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى . وقيل : معناه أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم في مجتمعاتهم ، ومعابدهم ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم ، عوضا عما فاتهم من إظهار شعار الدين الحق في ذلك الزمان ، الذي اقتضى حالهم إخفاءه; خوفا من فرعون وملئه . والمعنى الأول أقوى; لقوله : وبشر المؤمنين وإن كان لا ينافي الثاني أيضا ، والله أعلم . وقال سعيد بن جبير واجعلوا بيوتكم قبلة أي; متقابلة .
وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون [ يونس 88 - 89 ] . هذه دعوة عظيمة ، دعا بها كليم الله موسى ، على عدو الله فرعون; غضبا لله عليه ، لتكبره عن اتباع الحق وصده عن سبيل الله ، ومعاندته ، وعتوه ، وتمرده ، واستمراره على الباطل ، ومكابرته الحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي ، والبرهان القطعي ، فقال : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه يعني : قومه من القبط ، ومن كان على ملته ، ودان بدينه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك [ ص: 106 ] أي; وهذا يغتر به من يعظم أمر الدنيا ، فيحسب الجاهل أنهم على شيء; لكون هذه الأموال ، وهذه الزينة; من اللباس ، والمراكب الحسنة الهنية ، والدور الأنيقة ، والقصور المبنية ، والمآكل الشهية ، والمناظر البهية ، والملك العزيز ، والتمكين ، والجاه العريض ، في الدنيا لا الدين ، ربنا اطمس على أموالهم قال ابن عباس ومجاهد . أي; أهلكها . وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، والضحاك : اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما كانت . وقال قتادة : بلغنا أن زروعهم صارت حجارة . وقال محمد بن كعب : جعل سكرهم حجارة . وقال أيضا : صارت أموالهم كلها حجارة . ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز ، فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له : ائتني بكيس . فجاءه بكيس ، فإذا فيه . . . . وبيض قد قطع ، قد حول حجارة . رواه ابن أبي حاتم . وقوله : واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال ابن عباس : أي; اطبع عليها . وهذه دعوة غضب لله تعالى ولدينه ، ولبراهينه ، فاستجاب الله تعالى لها ، وحققها وتقبلها; كما استجاب لنوح في قومه ، حيث قال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ولهذا قال تعالى ، مخاطبا لموسى حين دعا على فرعون وملئه ، وأمن أخوه هارون على دعائه ، فنزل ذلك منزلة الداعي أيضا : [ ص: 107 ] قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب : استأذن بنو إسرائيل فرعون ، في الخروج إلى عيد لهم ، فأذن لهم وهو كاره ، ولكنهم تجهزوا للخروج وتأهبوا له ، وإنما كان في نفس الأمر مكيدة بفرعون وجنوده; ليتخلصوا منهم ، ويخرجوا عنهم ، وأمرهم الله تعالى - فيما ذكره أهل الكتاب - أن يستعيروا حليا منهم ، فأعاروهم شيئا كثيرا ، فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم طالبين بلاد الشام ، فلما علم بذهابهم فرعون ، حنق عليهم كل الحنق ، واشتد غضبه عليهم ، وشرع في استحثاث جيشه ، وجمع جنوده ليلحقهم ، ويمحقهم ، قال الله تعالى : وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ الشعراء : 52 - 68 ] . قال علماء التفسير : لما ركب فرعون في جنوده ، طالبا بني إسرائيل ، يقفو أثرهم ، كان في جيش كثيف عرمرم ، [ ص: 108 ] حتى قيل : كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم . وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف ، وستمائة ألف . فالله أعلم . وقيل : إن بني إسرائيل كانوا نحوا من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية ، وكان بين خروجهم من مصر صحبة موسى ، عليه السلام ، ودخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل ، أربعمائة سنة وست وعشرين سنة شمسية .
والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود ، فأدركهم عند شروق الشمس ، وتراءى الجمعان ، ولم يبق ثم ريب ، ولا لبس ، وعاين كل من الفريقين صاحبه ، وتحققه ورآه ، ولم يبق إلا المقاتلة ، والمجاولة ، والمحاماة ، فعندها قال أصحاب موسى ، وهم خائفون : إنا لمدركون وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر ، فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه ، وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه ، والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم ، وهي شاهقة منيفة ، وفرعون قد غالقهم وواجههم ، وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وعدده ، وهم منه في غاية الخوف والذعر ، لما قاسوا في سلطانه من الإهانة والنكر ، فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه ، مما قد شاهدوه وعاينوه ، فقال لهم الرسول الصادق المصدوق : كلا إن معي ربي سيهدين وكان في الساقة ، فتقدم إلى المقدمة ، ونظر إلى البحر ، وهو يتلاطم بأمواجه ، ويتزايد زبد أجاجه ، وهو يقول : هاهنا أمرت . ومعه أخوه هارون; ويوشع بن نون ، وهو يومئذ من سادات بني إسرائيل ، وعلمائهم ، [ ص: 109 ] وعبادهم الكبار ، وقد أوحى الله إليه ، وجعله نبيا بعد موسى وهارون عليهما السلام ، كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى ، ومعهم أيضا مؤمن آل فرعون ، وهم وقوف ، وبنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف . ويقال : إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مرارا في البحر ، هل يمكن سلوكه؟ فلا يمكن ، ويقول لموسى ، عليه السلام : يا نبي الله أهاهنا أمرت؟ فيقول : نعم . فلما تفاقم الأمر ، وضاق الحال واشتد الأمر ، واقترب فرعون وجنوده في جدهم ، وحدهم وحديدهم ، وغضبهم ، وحنقهم ، وزاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، فعند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير ، رب العرش الكريم إلى موسى الكليم : أن اضرب بعصاك البحر فلما ضربه ، يقال : إنه قال له : انفلق بإذن الله . ويقال : إنه كناه بأبي خالد . فالله أعلم . قال الله تعالى : فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ويقال : إنه انفلق اثني عشرة طريقا ، لكل سبط طريق يسيرون فيه ، حتى قيل : إنه صار أيضا شبابيك; ليرى بعضهم بعضا . وفي هذا نظر; لأن الماء جرم شفاف ، إذا كان من ورائه ضياء حكاه . وهكذا كان ماء البحر قائما مثل الجبال مكفوفا بالقدرة العظيمة الصادرة عن الذي يقول للشيء : كن . فيكون . وأمر الله ريح الدبور فلفحت حال البحر ، فأذهبته حتى صار يابسا لا يعلق في سنابك الخيول والدواب .
[ ص: 110 ] قال الله تعالى : ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى [ طه : 77 - 79 ] . والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال ، بإذن الرب العظيم الشديد المحال ، أمر موسى ، عليه السلام ، أن يجوزه ببني إسرائيل ، فانحدروا فيه مسرعين ، مستبشرين ، مبادرين ، وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين ، ويهدي قلوب المؤمنين ، فلما جاوزوه ، وجاوزه ، وخرج آخرهم منه ، وانفصلوا عنه ، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ، ووفودهم عليه ، فأراد موسى عليه السلام ، أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه; لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه ، ولا سبيل عليه ، فأمره القدير ذو الجلال ، أن يترك البحر على هذه الحال ، كما قال ، وهو الصادق في المقال .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 5:00 pm | |
| ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين [ الدخان : 17 - 33 ] . [ ص: 111 ] فقوله تعالى : واترك البحر رهوا أي; ساكنا على هيئته ، لا تغيره عن هذه الصفة . قاله عبد الله بن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والربيع ، والضحاك ، وقتادة ، وكعب الأحبار ، وسماك بن حرب ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم . فلما تركه على هيئته وحالته ، وانتهى فرعون ، فرأى ما رأى ، وعاين ما عاين ، هاله هذا المنظر العظيم وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك ، من أن هذا من فعل رب العرش الكريم ، فأحجم ولم يتقدم ، وندم في نفسه على خروجه في طلبهم ، والحالة هذه ، حيث لا ينفعه الندم ، لكنه أظهر لجنوده تجلدا ، وعاملهم معاملة العدا ، وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة ، على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه ، وعلى باطله تابعوه : انظروا كيف انحسر البحر لي; لأدرك عبيدي الآبقين من يدي ، الخارجين عن طاعتي وبلدي؟ وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم ، ويرجو أن ينجو وهيهات ، ويقدم تارة ، ويحجم تارات . فذكروا أن جبريل عليه السلام ، تبدى في صورة فارس ، راكب على رمكة حائل ، فمر بين يدي فحل فرعون ، لعنه الله ، فحمحم إليها ، وأقبل عليها ، وأسرع جبريل بين يديه ، فاقتحم البحر ، واستبق الجواد ، وقد أجاد فبادر مسرعا ، هذا وفرعون لا يملك [ ص: 112 ] من نفسه ولا لنفسه ضرا ولا نفعا ، فلما رأته الجنود قد سلك البحر ، اقتحموا وراءه مسرعين ، فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين ، حتى هم أولهم بالخروج منه ، فعند ذلك ، أمر الله تعالى كليمه صلى الله عليه وسلم فيما أوحاه إليه ، أن يضرب البحر بعصاه ، فضربه ، فارتطم عليهم البحر كما كان ، فلم ينج منهم إنسان . قال الله تعالى : وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم أي في إنجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد ، وإغراقه أعداءه ، فلم يخلص منهم أحد ، آية عظيمة ، وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة ، وصدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة ، والمناهج المستقيمة .
وقال تعالى : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون [ يونس : 90 - 92 ] . يخبر تعالى ، عن كيفية غرق فرعون ، زعيم كفرة القبط ، وأنه لما جعلت الأمواج تخفضه تارة ، وترفعه أخرى ، وبنو إسرائيل ينظرون إليه ، وإلى جنوده ، ماذا أحل الله به وبهم من البأس العظيم والخطب الجسيم ، ليكون أقر لأعين بني إسرائيل ، وأشفى لنفوسهم ، فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به ، وباشر سكرات [ ص: 113 ] الموت ، أناب حينئذ وتاب ، وآمن حين لا ينفع نفسا إيمانها; كما قال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ يونس : 96 ، 97 ] . وقال تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ غافر : 84 ، 85 ] .
وهكذا دعا موسى على فرعون وملئه ، أن يطمس على أموالهم ، ويشدد على قلوبهم ، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم أي; حين لا ينفعهم ذلك ، ويكون حسرة عليهم ، وقد قال تعالى لهما; أي لموسى وهارون ، حين دعوا بهذا : قد أجيبت دعوتكما فهذا من إجابة الله تعالى دعوة كليمه وأخيه هارون ، عليهما السلام .
ومن ذلك ، الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما قال فرعون : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال : قال لي جبريل : لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة ورواه الترمذي ، و ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عند هذه الآية ، من حديث حماد بن سلمة . وقال الترمذي : حديث حسن .
[ ص: 114 ] وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال لي جبريل : لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون; مخافة أن تدركه الرحمة ورواه الترمذي و ابن جرير ، من حديث شعبة ، وقال الترمذي : حسن غريب صحيح . وأشار ابن جرير في رواية إلى وقفه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما أغرق الله فرعون أشار بإصبعه ورفع صوته : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال : فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه ، فجعل يأخذ الحال بجناحيه ، فيضرب به وجهه فيرمسه . ورواه ابن جرير ، من حديث أبي خالد به . وقد رواه ابن جرير من طريق كثير بن زاذان ، وليس بمعروف ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال لي جبريل : يا محمد ، لو رأيتني ، وأنا أغطه ، وأدس من الحال في فيه ، مخافة أن تدركه رحمة; الله فيغفر له يعني [ ص: 115 ] فرعون . وقد أرسله غير واحد من السلف; كإبراهيم التيمي ، وقتادة ، وميمون بن مهران ، ويقال إن الضحاك بن قيس خطب به الناس . وفي بعض الروايات : إن جبريل قال : ما بغضت أحدا بغضي لفرعون ، حين قال : أنا ربكم الأعلى . ولقد جعلت أدس في فيه الطين حين قال ما قال وقوله تعالى : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين استفهام إنكار ، ونص على عدم قبوله تعالى منه; ذلك لأنه ، والله أعلم ، لو رد إلى الدنيا كما كان ، لعاد إلى ما كان عليه ، كما أخبر تعالى عن الكفار ، إذا عاينوا النار وشاهدوها ، أنهم يقولون : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين [ الأنعام : 27 ] . قال الله : بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [ الأنعام : 28 ] . وقوله : فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية قال ابن عباس وغير واحد : شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون ، حتى قال بعضهم : إنه لا يموت . فأمر الله البحر ، فرفعه على مرتفع - قيل : على وجه الماء . وقيل : على نجوة من الأرض - وعليه درعه التي يعرفونها من ملابسه; ليتحققوا بذلك هلاكه ، ويعلموا قدرة الله عليه; ولهذا قال : فاليوم ننجيك ببدنك أي; مصاحبا درعك المعروفة بك لتكون أي; أنت آية لمن خلفك أي; من بني إسرائيل ، دليلا على قدرة الله الذي أهلكه . ولهذا قرأ بعض السلف : ( لتكون لمن خلقك آية ) . ويحتمل أن يكون المراد : ننجيك مصاحبا درعك; ليكون درعك علامة لمن [ ص: 116 ] وراءك من بني إسرائيل ، على معرفتك ، وأنك هلكت ، والله أعلم . وقد كان هلاكه وجنوده في يوم عاشوراء .
كما قال الإمام البخاري في " صحيحه " : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء ، فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون . قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنتم أحق بموسى منهم فصوموا وأصل هذا الحديث في " الصحيحين " وغيرهما . والله أعلم .
﴿ (62) فصل فيما كان من أمر بني إسرائيل بعد هلاك فرعون ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
قال الله تعالى : فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ الأعراف : 136 - 141 ] . يذكر تعالى ما كان من أمر فرعون وجنوده ، في غرقهم ، وكيف سلبهم عزهم ، ومالهم ، وأنفسهم ، وأورث بني إسرائيل جميع أموالهم وأملاكهم ، كما قال : كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ الشعراء : 59 ] . وقال : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين [ القصص : 5 ] . [ ص: 118 ] وقال هاهنا : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون أي : أهلك ذلك جميعه ، وسلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا ، وهلك الملك وحاشيته ، وأمراؤه ، وجنوده ، ولم يبق ببلد مصر سوى العامة والرعايا . فذكر ابن عبد الحكم ، في " تاريخ مصر " ، أنه من ذلك الزمان تسلط نساء مصر على رجالها; بسبب أن نساء الأمراء والكبراء تزوجن بمن دونهن من العامة فكانت لهن السطوة عليهم واستمرت هذه سنة نساء مصر إلى يومك هذا .
وعند أهل الكتاب ، أن بني إسرائيل لما أمروا بالخروج من مصر ، جعل الله ذلك الشهر أول سنتهم ، وأمروا أن يذبح كل أهل بيت حملا من الغنم ، فإن كانوا لا يحتاجون إلى حمل ، فليشترك الجار وجاره فيه ، فإذا ذبحوه فلينضحوا من دمه على أعتاب أبوابهم; ليكون علامة لهم على بيوتهم ، ولا يأكلونه مطبوخا ، ولكن مشويا برأسه ، وأكارعه ، وبطنه ، ولا يبقوا منه شيئا ، ولا يكسروا له عظما ، ولا يخرجوا منه شيئا إلى خارج بيوتهم ، وليكن خبزهم فطيرا سبعة أيام ابتداؤها من الرابع عشر من الشهر الأول من سنتهم ، وكان ذلك في فصل الربيع ، فإذا أكلوا ، فلتكن أوساطهم مشدودة ، وخفافهم في أرجلهم ، وعصيهم في أيديهم ، وليأكلوا بسرعة قياما ، ومهما فضل عن [ ص: 119 ] عشائهم ، فما بقي إلى الغد فليحرقوه بالنار ، وشرع لهم هذا عيدا لأعقابهم ، ما دامت التوراة معمولا بها ، فإذا نسخت بطل شرعها ، وقد وقع . قالوا : وقتل الله عز وجل في تلك الليلة أبكار القبط ، وأبكار دوابهم ، ليشتغلوا عنهم وخرج بنو إسرائيل حين انتصف النهار ، وأهل مصر في مناحة عظيمة ، على أبكار أولادهم ، وأبكار أموالهم ، ليس من بيت إلا وفيه عويل . وحين جاء الوحي إلى موسى ، خرجوا مسرعين ، فحملوا العجين قبل اختماره ، وحملوا الأزواد في الأردية ، وألقوها على عواتقهم ، وكانوا قد استعاروا من أهل مصر حليا كثيرا ، فخرجوا وهم ستمائة ألف رجل ، سوى الذراري ، بما معهم من الأنعام ، وكانت مدة مقامهم بمصر أربعمائة سنة وثلاثين سنة . هذا نص كتابهم . وهذه السنة عندهم تسمى سنة الفسخ وهذا العيد عيد الفسخ ، ولهم عيد الفطير وعيد الحمل ، وهو أول السنة . وهذه الأعياد الثلاثة آكد أعيادهم ، منصوص عليها في كتابهم . ولما خرجوا من مصر أخرجوا معهم تابوت يوسف ، عليه السلام ، وخرجوا على طريق بحر سوف . وكانوا في النهار يسيرون والسحاب بين أيديهم يسير أمامهم ، فيه عامود نور ، وبالليل أمامهم عامود نار ، فانتهى بهم الطريق إلى ساحل البحر ، فنزلوا هنالك ، وأدركهم فرعون وجنوده من المصريين ، وهم هناك حلول على شاطئ اليم ، فقلق كثير من بني إسرائيل ، حتى قال قائلهم : كان بقاؤنا بمصر أحب إلينا من الموت بهذه البرية . وقال موسى ، عليه السلام ، لمن قال هذه المقالة : لا [ ص: 120 ] تخشوا فإن فرعون وجنوده لا يرجعون إلى بلدهم بعد هذا . قالوا : وأمر الله موسى ، عليه السلام ، أن يضرب البحر بعصاه ، وأن يقسمه; ليدخل بنو إسرائيل في البحر واليبس . وصار الماء من هاهنا وهاهنا كالجبلين وصار وسطه يبسا; لأن الله سلط عليه ريح الجنوب والسموم ، فجاز بنو إسرائيل البحر ، وأتبعهم فرعون وجنوده ، فلما توسطوه ، أمر الله موسى فضرب البحر بعصاه ، فرجع الماء كما كان عليهم . لكن عند أهل الكتاب ، أن هذا كان في الليل ، وأن البحر ارتطم عليهم عند الصبح ، وهذا من غلطهم ، وعدم فهمهم في تعريبهم ، والله أعلم . قالوا : ولما أغرق الله فرعون وجنوده ، حينئذ سبح موسى وبنو إسرائيل بهذا التسبيح للرب ، وقالوا : نسبح الرب البهي الذي قهر الجنود ، ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود . وهو تسبيح طويل . قالوا : وأخذت مريم النبية ، أخت هارون دفا بيدها ، وخرج النساء في أثرها ، كلهن بدفوف وطبول ، وجعلت مريم ترتل لهن وتقول : سبحان الرب القهار ، الذي قهر الخيول وركبانها ، إلقاء في البحر . هكذا رأيته في كتابهم . ولعل هذا هو من الذي حمل محمد بن كعب القرظي على زعمه أن مريم بنت عمران ، أم عيسى ، هي أخت هارون وموسى ، مع قوله : يا أخت هارون وقد بينا غلطه في ذلك ، وأن هذا لا يمكن أن يقال ، ولم يتابعه أحد عليه ، بل كل واحد خالفه فيه ، ولو قدر أن هذا محفوظ ، فهذه مريم بنت عمران ، أخت موسى وهارون ، عليهما السلام ، وأم عيسى عليها السلام ، وافقتها في [ ص: 121 ] الاسم ، واسم الأب ، واسم الأخ; لأنهم كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، للمغيرة بن شعبة لما سأله أهل نجران ، عن قوله : يا أخت هارون فلم يدر ما يقول لهم ، حتى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك ، فقال : أما علمت أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم رواه مسلم . وقولهم : النبية . كما يقال للمرأة من بيت الملك : ملكة . ومن بيت الإمرة : أميرة . وإن لم تكن مباشرة شيئا من ذلك ، فكذا هذه استعارة لها ، لا أنها نبية حقيقة يوحى إليها . وضربها بالدف في مثل هذا اليوم - الذي هو أعظم الأعياد عندهم - دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في العيد . وهذا مشروع لنا أيضا في حق النساء; لحديث الجاريتين اللتين كانتا عند عائشة تضربان بالدف في أيام منى ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع ، مول ظهره إليهم ، ووجهه إلى الحائط ، فلما دخل أبو بكر زجرهن ، وقال : أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال : دعهن يا أبا بكر ، فإن لكل قوم عيدا ، وهذا عيدنا وهكذا يشرع عندنا في الأعراس ، ولقدوم الغياب ، كما هو مقرر في موضعه . والله أعلم .
وذكروا أنهم لما جاوزوا البحر ، وذهبوا قاصدين إلى بلاد الشام ، مكثوا ثلاثة أيام ، لا يجدون ماء ، فتكلم من تكلم منهم بسبب ذلك ، فوجدوا ماء زعاقا أجاجا ، لم يستطيعوا شربه ، فأمر الله موسى ، عليه السلام ، فأخذ خشبة فوضعها فيه ، فحلا وساغ شربه ، وعلمه الرب هنالك فرائض وسننا ، ووصاه وصايا كثيرة . وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز ، المهيمن على ما [ ص: 122 ] عداه من الكتب : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قالوا هذا الجهل والضلال ، وقد عاينوا من آيات الله وقدرته ، ما دلهم على صدق ما جاءهم به رسول ذي الجلال والإكرام ، وذلك أنهم مروا على قوم يعبدون أصناما ، قيل : كانت على صور البقر . فكأنهم سألوهم : لم يعبدونها ، فزعموا لهم أنها تنفعهم وتضرهم ، ويسترزقون بها عند الضرورات ، فكأن بعض الجهال منهم صدقوهم في ذلك ، فسألوا نبيهم الكليم الكريم العظيم ، أن يجعل لهم آلهة كما لأولئك آلهة ، فقال لهم مبينا لهم أنهم لا يعقلون ولا يهتدون : إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . ثم ذكرهم نعمة الله عليهم ، في تفضيله إياهم على عالمي زمانهم بالعلم ، والشرع ، والرسول الذي بين أظهرهم ، وما أحسن به إليهم ، وما امتن به عليهم ، من إنجائهم من قبضة فرعون الجبار العنيد ، وإهلاكه إياه وهم ينظرون ، وتوريثه إياهم ما كان فرعون وملؤه يجمعونه من الأموال والسعادة ، وما كانوا يعرشون ، وبين لهم أنه لا تصلح العبادة إلا لله وحده ، لا شريك له; لأنه الخالق الرازق القهار ، وليس كل بني إسرائيل سأل هذا السؤال ، بل الضمير عائد على الجنس في قوله : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة أي; قال بعضهم كما في قوله : [ ص: 123 ] وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا [ الكهف : 47 ، 48 ] . فالذين زعموا هذا بعض الناس ، لا كلهم .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن سنان بن أبي سنان الديلي ، عن أبي واقد الليثي ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل حنين ، فمررنا بسدرة فقلت : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط ، كما للكفار ذات أنواط . وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ، ويعكفون حولها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم ورواه النسائي ، عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق به . ورواه الترمذي ، عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري به . ثم قال : حسن صحيح . وقد روى ابن جرير ، من حديث محمد بن إسحاق ، ومعمر ، وعقيل ، عن الزهري عن سنان بن أبي سنان ، عن أبي واقد الليثي ، أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين قال : وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ، ويعلقون بها أسلحتهم يقال لها : ذات أنواط . قال : فمررنا بسدرة خضراء عظيمة ، قال : فقلنا : يا رسول [ ص: 124 ] الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . قال : قلتم والذي نفسي بيده ، كما قال قوم موسى لموسى " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون " .
والمقصود أن موسى ، عليه السلام ، لما انفصل من بلاد مصر ، وواجه بلاد بيت المقدس وجد فيها قوما من الجبارين ، من الحيثانيين ، والفزاريين ، والكنعانيين ، وغيرهم فأمرهم موسى ، عليه السلام ، بالدخول عليهم ، ومقاتلتهم وإجلائهم إياهم عن بيت المقدس ، فإن الله كتبه لهم ، ووعدهم إياه ، على لسان إبراهيم الخليل ، وموسى الكليم الجليل ، فأبوا ونكلوا عن الجهاد ، فسلط الله عليهم الخوف ، وألقاهم في التيه; يسيرون ، ويحلون ، ويرتحلون ، ويذهبون ، ويجيئون ، في مدة من السنين طويلة ، هي من العدد أربعون; كما قال الله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين [ المائدة : 20 - 26 ] . [ ص: 125 ] يذكرهم نبي الله نعمة الله عليهم ، إحسانه عليهم بالنعم الدينية والدنيوية ، ويأمرهم بالجهاد في سبيل الله ، ومقاتلة أعدائه ، فقال : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم أي; تنكصوا على أعقابكم ، وتنكلوا على قتال أعدائكم . فتنقلبوا خاسرين أي; فتخسروا بعد الربح ، وتنقصوا بعد الكمال . قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين أي; عتاة كفرة متمردين ، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ، خافوا من هؤلاء الجبارين ، وقد عاينوا هلاك فرعون ، وهو أجبر من هؤلاء ، وأشد بأسا ، وأكثر جمعا ، وأعظم جندا . وهذا يدل على أنهم ملومون في هذه المقالة ، ومذمومون على هذه الحالة ، من الذلة عن مصاولة الأعداء ، ومقاومة المردة الأشقياء .
وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا آثارا ، فيها مجازفات كثيرة باطلة ، يدل العقل والنقل على خلافها; من أنهم كانوا أشكالا هائلة ضخاما جدا ، حتى إنهم ذكروا أن رسل بني إسرائيل ، لما قدموا عليهم ، تلقاهم رجل من رسل الجبارين ، فجعل يأخذهم واحدا واحدا ، ويلفهم في أكمامه وحجزة سراويله ، وهم اثنا عشر رجلا ، فجاء بهم ، فنثرهم بين يدي ملك الجبارين ، فقال : ما هؤلاء؟ ولم يعرف أنهم من بني آدم حتى عرفوه . وكل هذه هذيانات [ ص: 126 ] وخرافات لا حقيقة لها ، وأن الملك بعث معهم عنبا ، كل عنبة تكفي الرجل ، وشيئا من ثمارهم; ليعلموا ضخامة أشكالهم ، وهذا ليس بصحيح . وذكروا هاهنا أن عوج بن عنق ، خرج من عند الجبارين إلى بني إسرائيل; ليهلكهم ، وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع ، وثلاثمائة ذراع ، وثلاثة وثلاثين ذراعا ، وثلث ذراع ، هكذا ذكره البغوي وغيره ، وليس بصحيح ، كما قدمنا بيانه عند قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق آدم ، طوله ستون ذراعا ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن . قالوا : فعمد عوج إلى قمة جبل ، فاقتلعها ، ثم أخذها بيديه; ليلقيها على جيش موسى ، فجاء طائر ، فنقر تلك الصخرة ، فخرقها ، فصارت طوقا في عنق عوج بن عنق ، ثم عمد موسى إليه ، فوثب في الهواء عشرة أذرع ، وطوله عشرة أذرع ، وبيده عصاه ، وطولها عشرة أذرع ، فوصل إلى كعب قدمه فقتله . يروى هذا عن نوف البكالي ، ونقله ابن جرير ، عن ابن عباس ، وفي إسناده إليه نظر . ثم هو مع هذا كله من الإسرائيليات ، وكل هذه من وضع جهال بني إسرائيل فإن الأخبار الكذبة قد كثرت عندهم ، ولا تمييز لهم بين صحيحها وباطلها . ثم لو كان هذا [ ص: 127 ] صحيحا لكان بنو إسرائيل معذورين في النكول عن قتالهم ، وقد ذمهم الله على نكولهم ، وعاقبهم بالتيه على ترك جهادهم ، ومخالفتهم رسولهم ، وقد أشار عليهم رجلان صالحان منهم بالإقدام ، ونهياهم عن الإحجام . ويقال : إنهما يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وغير واحد .
قال رجلان من الذين يخافون أي; يخافون الله وقرأ بعضهم : ( يخافون ) ; أي يهابون ، أنعم الله عليهما أي; بالإسلام ، والإيمان ، والطاعة ، والشجاعة : ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين أي; إذا توكلتم على الله ، واستعنتم به ، ولجأتم إليه ، نصركم على عدوكم ، وأيدكم عليهم ، وأظفركم بهم .
قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون فصمم ملؤهم علىالنكول عن الجهاد ، ووقع أمر عظيم ، ووهن كبير . فيقال : إن يوشع ، وكالب لما سمعا هذا الكلام شقا ثيابهما ، وإن موسى وهارون ، عليهما السلام ، سجدا; إعظاما لهذا الكلام وغضبا لله عز وجل ، وشفقة عليهم من وبيل هذه المقالة .
قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين [ ص: 128 ] قال ابن عباس : اقض بيني وبينهم . قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين عوقبوا على نكولهم بالتيهان في الأرض ، يسيروا إلى غير مقصد ، ليلا ونهارا ، وصباحا ومساء . ويقال : إنه لم يخرج أحد من التيه ممن دخله ، بل ماتوا كلهم في مدة أربعين سنة ، ولم يبق إلا ذراريهم سوى يوشع ، وكالب ، عليهما السلام .
لكن أصحاب محمد ، صلى الله عليه وسلم ، يوم بدر ، لم يقولوا له كما قال قوم موسى لموسى ، بل لما استشارهم في الذهاب إلى النفير ، تكلم الصديق فأحسن ، وغيره من المهاجرين ، ثم جعل يقول : أشيروا علي حتى قال سعد بن معاذ : كأنك تعرض بنا يا رسول الله ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن يلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك . فسر بنا على بركة الله . فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، وبسطه ذلك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن ابن عبد الله الأحمسي ، عن طارق هو ابن شهاب ، أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : [ ص: 129 ] فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون . وهذا إسناد جيد من هذا الوجه وله طرق أخرى .
قال أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا إسرائيل ، عن مخارق ، عن طارق بن شهاب ، قال : قال عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه : لقد شهدت من المقداد مشهدا ، لأن أكون أنا صاحبه ، أحب إلي مما عدل به; أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يدعو على المشركين ، فقال : والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكنا نقاتل عن يمينك ، وعن يسارك ، ومن بين يديك ، ومن خلفك . فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك ، وسر بذلك . رواه البخاري في التفسير والمغازي ، من طرق عن مخارق به . وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا علي بن الحسن بن علي حدثنا أبو حاتم الرازي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا حميد ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين ، فأشار عليه عمر ، ثم استشارهم ، فقالت الأنصار : يا معشر الأنصار ، إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالوا : إذا لا نقول له كما قال بنو إسرائيل لموسى : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون والذي بعثك بالحق ، لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك . رواه الإمام أحمد ، عن عبيدة بن حميد ، عن حميد [ ص: 130 ] الطويل ، عن أنس به . ورواه النسائي عن محمد بن المثنى ، عن خالد بن الحارث ، عن حميد ، عن أنس به نحوه . وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " ، عن أبي يعلى ، عن عبد الأعلى بن حماد ، عن معتمر عن حميد ، عن أنس به نحوه .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 5:01 pm | |
| ﴿ (63) فصل في دخول بني إسرائيل التيه وما جرى لهم فيه من الأمور العجيبة ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
قد ذكرنا نكول بني إسرائيل عن قتال الجبارين ، وأن الله تعالى عاقبهم بالتيه ، وحكم بأنهم لا يخرجون منه إلى أربعين سنة ، ولم أر في كتاب أهل الكتاب قصة نكولهم عن قتال الجبارين ، ولكن فيها أن يوشع جهزه موسى لقتال طائفة من الكفار ، وأن موسى وهارون ، وخور ، جلسوا على رأس أكمة ، ورفع موسى عصاه ، فكلما رفعها انتصر يوشع عليهم وكلما مالت يده بها من تعب أو نحوه ، غلبه أولئك ، وجعل هارون وخور يدعمان يديه عن يمينه وشماله ذلك اليوم إلى غروب الشمس ، فانتصر حزب يوشع عليه السلام . وعندهم; أن يثرون كاهن مدين ، وختن موسى ، عليه السلام ، بلغه ما كان من أمر موسى ، وكيف أظفره الله بعدوه فرعون فقدم على موسى مسلما ومعه ابنته صفورا زوجة موسى ، وابناها منه جرشون ، وعازر ، فتلقاه موسى وأكرمه ، واجتمع به شيوخ بني إسرائيل ، وعظموه وأجلوه . وذكروا أنه رأى كثرة اجتماع بني إسرائيل على موسى ، في الخصومات التي تقع بينهم ، فأشار على موسى أن يجعل على الناس رجالا أمناء ، أتقياء ، [ ص: 132 ] أعفاء ، يبغضون الرشاء والخيانة ، فيجعلهم على الناس رءوس ألوف ، ورءوس مئين ، ورؤس خمسين ، ورؤس عشرة ، فيقضوا بين الناس ، فإذا أشكل عليهم أمر جاءوك ، ففصلت بينهم ما أشكل عليهم ، ففعل ذلك موسى عليه السلام . قالوا : ودخل بنو إسرائيل البرية ، عند سيناء في الشهر الثالث من خروجهم من مصر ، وكان خروجهم في أول السنة التي شرعت لهم ، وهي أول فصل الربيع . فكأنهم دخلوا التيه في أول فصل الصيف . والله أعلم . قالوا : ونزل بنو إسرائيل حول طور سيناء ، وصعد موسى الجبل ، فكلمه ربه ، وأمره أن يذكر بني إسرائيل ما أنعم الله به عليهم من إنجائه إياهم من فرعون وقومه ، وكيف حملهم على مثل جناحي نسر من يده وقبضته ، وأمره أن يأمر بني إسرائيل بأن يتطهروا ويغتسلوا ويغسلوا ثيابهم وليستعدوا إلى اليوم الثالث ، فإذا كان في اليوم الثالث فليجتمعوا حول الجبل ، ولا يقتربن أحد منهم إليه ، فمن دنا منه قتل ، حتى ولا شيء من البهائم ، ما داموا يسمعون صوت القرن ، فإذا سكن القرن فقد حل لكم أن ترتقوه ، فسمع بنو إسرائيل ذلك ، وأطاعوا ، واغتسلوا ، وتنظفوا ، وتطيبوا ، فلما كان اليوم الثالث ركب الجبل غمامة عظيمة ، وفيها أصوات وبروق ، وصوت الصور شديد جدا ، ففزع بنو إسرائيل من ذلك فزعا شديدا ، وخرجوا فقاموا في سفح الجبل ، وغشي الجبل دخان عظيم في وسطه عمود نور ، وتزلزل الجبل كله زلزلة شديدة ، واستمر صوت الصور ، وهو البوق ، واشتد ، وموسى ، عليه السلام ، فوق الجبل ، والله يكلمه ويناجيه ، وأمر الرب ، عز وجل ، موسى أن ينزل ، فيأمر بني [ ص: 133 ] إسرائيل أن يقتربوا من الجبل; ليسمعوا وصية الله ، ويأمر الأحبار ، وهم علماؤهم ، أن يدنوا فيصعدوا الجبل; ليتقدموا بالقرب - وهذا نص في كتابهم على وقوع النسخ لا محالة - فقال موسى : يا رب إنهم لا يستطيعون أن يصعدوه ، وقد نهيتهم عن ذلك فأمره الله تعالى أن يذهب ، فيأتي معه بأخيه هارون ، وليكن الكهنة ، وهم العلماء ، والشعب ، وهم بقية بني إسرائيل ، غير بعيد . ففعل موسى ، وكلمه ربه عز وجل ، فأمره حينئذ بالعشر كلمات .
وعندهم; أن بني إسرائيل سمعوا كلام الله ، ولكن لم يفهموا حتى فهمهم موسى ، وجعلوا يقولون لموسى : بلغنا أنت عن الرب ، فإنا نخاف أن نموت . فبلغهم عنه ، فقال هذه العشر الكلمات; وهي الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، والنهي عن الحلف بالله كاذبا ، والأمر بالمحافظة على السبت ، ومعناه تفرغ يوم من الأسبوع للعبادة . وهذا حاصل بيوم الجمعة ، الذي نسخ الله به السبت ، أكرم أباك وأمك ، ليطول عمرك في الأرض ، الذي يعطيك الله ربك ، لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد على صاحبك شهادة زور ، لا تمد عينك إلى بيت صاحبك ، ولا تشته امرأة صاحبك ، ولا عبده ، ولا أمته ، ولا ثوره ، ولا حماره ، ولا شيئا من الذي لصاحبك ، ومعناه النهي عن الحسد .
وقد قال كثير من علماء السلف وغيرهم : مضمون هذه العشر الكلمات [ ص: 134 ] في آيتين من القرآن ، وهما قوله تعالى في سورة " الأنعام " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ الأنعام : 151 - 153 ] . وذكروا بعد العشر الكلمات وصايا كثيرة ، وأحكاما متفرقة عزيزة ، كانت فزالت وعمل بها حينا من الدهر ، ثم طرأ عليها عصيان من المكلفين بها ثم عمدوا إليها فبدلوها ، وحرفوها ، وأولوها . ثم بعد ذلك كله سلبوها ، فصارت منسوخة مبدلة ، بعد ما كانت مشروعة مكملة ، فلله الأمر من قبل ومن بعد ، وهو الذي يحكم ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، ألا له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين .
وقد قال الله تعالى : يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى [ طه : 80 - 82 ] . يذكر تعالى منته [ ص: 135 ] وإحسانه إلى بني إسرائيل ، بما أنجاهم من أعدائهم ، وخلصهم من الضيق والحرج ، وأنه وعدهم صحبة نبيهم كليمه إلى جانب الطور الأيمن ، أي منهم لينزل عليه أحكاما عظيمة فيها مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم ، وأنه تعالى أنزل عليهم في حال شدتهم وضرورتهم ، في سفرهم في الأرض التي ليس فيها زرع ولا ضرع ، منا من السماء ، يصبحون فيجدونه خلال بيوتهم ، فيأخذون منه قدر حاجتهم في ذلك اليوم إلى مثله من الغد ، ومن ادخر منه لأكثر من ذلك فسد ، ومن أخذ منه قليلا كفاه ، أو كثيرا لم يفضل عنه ، فيصنعون منه مثل الخبز ، وهو في غاية البياض والحلاوة ، فإذا كان من آخر النهار غشيهم طير السلوى ، فيقتنصون منه بلا كلفة ما يحتاجون إليه حسب كفايتهم لعشائهم ، وإذا كان فصل الصيف ظلل الله عليهم الغمام ، وهو السحاب الذي يستر عنهم حر الشمس ، وضوءها الباهر . كما قال الله تعالى في سورة " البقرة " : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون [ البقرة : 40 ، 41 ] . إلى أن قال : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ البقرة : 49 - 57 ] . [ ص: 136 ] إلى أن قال : وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون [ البقرة : 60 ، 61 ] . يذكر تعالى إنعامه عليهم ، وإحسانه إليهم بما يسر لهم من المن والسلوى طعامين شهيين بلا كلفة ولا سعي لهم فيه ، بل ينزل الله المن باكرا ، ويرسل عليهم طير السلوى عشيا ، وأنبع الماء لهم بضرب موسى ، عليه السلام ، حجرا كانوا يحملونه معهم ، بالعصا فتفجر منه اثنتا عشرة عينا ، لكل سبط عين منه تنبجس ثم تنفجر ماء زلالا ، فيستقون ويشربون ويسقون دوابهم ، ويدخرون كفايتهم . وظلل عليهم الغمام من الحر . وهذه نعم من الله [ ص: 137 ] عظيمة وعطيات جسيمة ، فما رعوها حق رعايتها ، ولا قاموا بشكرها وحق عبادتها ، ثم ضجر كثير منها وتبرموا بها ، وسألوا أن يستبدلوا منها ببدلها ، مما تنبت الأرض من بقلها ، وقثائها ، وفومها ، وعدسها ، وبصلها . فقرعهم الكليم ، ووبخهم وأنبهم على هذه المقالة ، وعنفهم قائلا : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم أي; هذا الذي تطلبونه وتريدونه بدل هذه النعم التي أنتم فيها ، حاصل لأهل الأمصار الصغار والكبار ، موجود بها ، وإذا هبطتم إليها ، أي; ونزلتم عن هذه المرتبة التي لا تصلحون لمنصبها ، تجدوا بها ما تشتهون ، وما ترومون مما ذكرتم من المآكل الدنية والأغذية الردية ، ولكني لست أجيبكم إلى سؤالكم ذلك هاهنا ، ولا أبلغكم ما تعنتم به من المنى ، وكل هذه الصفات المذكورة عنهم الصادرة منهم ، تدل على أنهم لم ينتهوا عما نهوا عنه ، كما قال تعالى : ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى [ طه : 81 ] . أي; فقد هلك ، وحق له والله الهلاك والدمار ، وقد حل عليه غضب الملك الجبار ، ولكنه تعالى مزج هذا الوعيد الشديد بالرجاء لمن أناب وتاب ، ولم يستمر على متابعة الشيطان المريد ، فقال : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى [ طه : 82 ] .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 5:03 pm | |
| ﴿ (64) سؤال الرؤية ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
قال الله تعالى : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون [ الأعراف : 142 - 147 ] . قال جماعة من السلف; منهم ابن عباس ، ومسروق ، ومجاهد : الثلاثون ليلة هي; شهر ذي القعدة [ ص: 139 ] بكماله ، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحجة . فعلى هذا يكون كلام الله له يوم عيد النحر ، وفي مثله أكمل الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم دينه ، وأقام حجته وبراهينه .
والمقصود أن موسى ، عليه السلام ، لما استكمل الميقات ، وكان فيه صائما ، يقال : إنه لم يستطعم الطعام . فلما كمل الشهر أخذ لحا شجرة فمضغه ، ليطيب ريح فمه ، فأمر الله أن يمسك عشرا أخرى ، فصارت أربعين ليلة . ولهذا ثبت في الحديث أن : خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فلما عزم على الذهاب ، استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هارون المحبب المبجل الجليل ، وهو ابن أمه وأبيه ، ووزيره في الدعوة إلى مصطفيه ، فوصاه وأمره ونهاه ، وليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة ، قال الله تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا أي; في الوقت الذي أمر بالمجيء فيه ، وكلمه ربه أي; كلمه الله من وراء حجاب ، إلا أنه أسمعه الخطاب ، فناداه وناجاه ، وقربه وأدناه ، وهذا مقام رفيع ، ومعقل منيع ، ومنصب شريف ، ومنزل منيف ، فصلوات الله عليه تترى وسلامه عليه في الدنيا والأخرى . ولما أعطي هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية ، وسمع الخطاب ، سأل رفع الحجاب ، فقال للعظيم الذي لا تدركه الأبصار ، القوي البرهان : ربي أرني أنظر إليك قال لن تراني ثم بين تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى; لأن الجبل الذي هو أقوى وأكبر ذاتا ، وأشد ثباتا من الإنسان ، لا يثبت عند التجلي من الرحمن ، ولهذا قال : [ ص: 140 ] ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني .
وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال له : يا موسى ، إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده . وفي " الصحيحين " ، عن أبي موسى ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : حجابه النور وفي رواية : النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وقال ابن عباس ، في قوله تعالى : لا تدركه الأبصار ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى لشيء لا يقوم له شيء; ولهذا قال تعالى : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال مجاهد : ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فإنه أكبر منك وأشد خلقا ، فلما تجلى ربه للجبل فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل فدك على أوله ، ورأى موسى ما يصنع الجبل ، فخر صعقا . وقد ذكرنا في " التفسير " ما رواه الإمام أحمد والترمذي ، وصححه ابن جرير ، والحاكم ، من طريق حماد بن سلمة ، عن ثابت ، زاد ابن جرير ، وليث ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا قال : هكذا بأصبعه ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى [ ص: 141 ] من الخنصر ، فساخ الجبل . لفظ ابن جرير وقال السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ما تجلى - يعني من العظمة - إلا قدر الخنصر ، فجعل الجبل دكا ، قال : ترابا وخر موسى صعقا أي; مغشيا عليه . وقال قتادة : ميتا . والصحيح الأول; لقوله : فلما أفاق فإن الإفاقة إنما تكون عن غشي . قال : سبحانك تنزيه ، وتعظيم ، وإجلال أن يراه بعظمته أحد . تبت إليك أي : فلست أسأل بعد هذا الرؤية : وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده .
وقد ثبت في " الصحيحين " ، من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة الطور لفظ البخاري ، وفي أوله قصة اليهودي الذي لطم وجهه الأنصاري ، حين قال : لا والذي اصطفى موسى على البشر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخيروني من بين الأنبياء وفي [ ص: 142 ] " الصحيحين " ، من طريق الزهري ، عن أبي سلمة ، وعبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وفيه : لا تخيروني على موسى . وذكر تمامه . وهذا من باب الهضم والتواضع ، أو نهي عن التفضيل بين الأنبياء على وجه الغضب والعصبية ، أو ليس هذا إليكم ، بل الله هو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات ، وليس ينال هذا بمجرد الرأي ، بل بالتوقيف . ومن قال : إن هذا قاله قبل أن يعلم أنه أفضل ، ثم نسخ باطلاعه على أفضليته عليهم كلهم . ففي قوله نظر; لأن هذا من رواية أبي سعيد ، وأبي هريرة ، وما هاجر أبو هريرة إلا عام خيبر متأخرا ، فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا . والله أعلم . ولا شك أنه ، صلوات الله وسلامه عليه ، أفضل البشر ، بل الخليقة . قال الله تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران : 110 ] . وما كملوا إلا بشرف نبيهم ، وثبت بالتواتر عنه ، صلوات الله وسلامه عليه ، أنه قال : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ثم ذكر اختصاصه بالمقام المحمود ، الذي يغبطه به الأولون والآخرون ، الذي تحيد عنه الأنبياء والمرسلون ، حتى أولو العزم الأكملون; نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ابن مريم . وقوله صلى الله عليه وسلم : فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش - أي; آخذا بها - فلا أدري أفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة الطور . [ ص: 143 ] دليل على أن هذا الصعق ، الذي يحصل للخلائق في عرصات القيامة ، حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده ، فيصعقون من شدة الهيبة والعظمة والجلال ، فيكون أولهم إفاقة محمد ، خاتم الأنبياء ، ومصطفى رب الأرض والسماء على سائر الأنبياء ، فيجد موسى باطشا بقائمة العرش . قال الصادق المصدوق : لا أدري أصعق ، فأفاق قبلي أي كانت صعقته خفيفة; لأنه قد ناله بهذا السبب في الدنيا صعق ، أو جوزي بصعقة الطور ، يعني فلم يصعق بالكلية ، وهذا فيه شرف كبير وعلو مرتبة لموسى ، عليه السلام ، من هذه الحيثية ، ولا يلزم تفضيله بها مطلقا من كل وجه; ولهذا نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على شرفه وفضيلته بهذه الصفة; لأن المسلم لما ضرب وجه اليهودي ، حين قال : لا والذي اصطفى موسى على البشر . قد يحصل في نفوس المشاهدين لذلك هضم بجناب موسى ، عليه السلام ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته وشرفه . وقوله تعالى : قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي أي في ذلك الزمان ، لا ما قبله; لأن إبراهيم الخليل أفضل منه ، كما تقدم بيان ذلك في قصة إبراهيم ، ولا ما بعده; لأن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل منهما; كما ظهر شرفه ليلة الإسراء على جميع المرسلين والأنبياء ، وكما ثبت أنه قال : سأقوم مقاما يرغب إلي الخلق حتى إبراهيم وقوله تعالى : فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين أي; فخذ ما أعطيتك من الرسالة [ ص: 144 ] والكلام ، ولا تسأل زيادة عليه ، وكن من الشاكرين على ذلك .
قال الله تعالى : وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء وكانت الألواح من جوهر نفيس ، ففي " الصحيح " أن الله كتب له التوراة بيده وفيها مواعظ عن الآثام ، وتفصيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، فخذها بقوة أي; بعزم ونية صادقة قوية ، وأمر قومك يأخذوا بأحسنها أي ، يضعوها على أحسن وجوهها ، وأجمل محاملها ، سأوريكم دار الفاسقين أي; ستروا عاقبة الخارجين عن طاعتي ، المخالفين لأمري ، المكذبين لرسلي . سأصرف عن آياتي أي; عن فهمها ، وتدبرها ، وتعقل معناها الذي أريد منها ، ودل عليه مقتضاها ، الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها أي; ولو شاهدوا مهما شاهدوا من الخوارق ، والمعجزات ، لا ينقادوا لاتباعها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا أي; لا يسلكوه ، ولا يتبعوه وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا أي; صرفناهم عن ذلك; لتكذيبهم بآياتنا ، وتغافلهم عنها ، وإعراضهم عن التصديق بها ، والتفكر في معناها ، وترك العمل بمقتضاها ، والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 5:05 pm | |
| ﴿ (65) قصة عبادتهم العجل في غيبة كليم الله موسى ، عليه السلام ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
قال الله تعالى : واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون [ الأعراف : 148 - 154 ] .
[ ص: 146 ] وقال الله تعالى : وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما [ طه : 83 - 98 ] . يذكر تعالى ما كان من أمر بني إسرائيل ، حين ذهب موسى ، عليه السلام ، إلى ميقات ربه ، فمكث على الطور يناجيه ربه ، ويسأله موسى ، عليه السلام ، عن أشياء كثيرة ، وهو تعالى يجيبه عنها ، فعمد رجل منهم يقال له : السامري . [ ص: 147 ] فأخذ ما كان استعاروه من الحلي فصاغ منه عجلا ، وألقى فيه قبضة من التراب ، كان أخذها من أثر فرس جبريل ، حين رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه ، فلما ألقاها فيه خار كما يخور العجل الحقيقي ، ويقال : إنه استحال عجلا جسدا . أي لحما ودما ، حيا يخور . قاله قتادة وغيره . وقيل : بل كانت الريح إذا دخلت من دبره ، خرجت من فمه ، فيخور كما تخور البقرة ، فيرقصون حوله ويفرحون . فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أي; فنسي موسى ربه عندنا ، وذهب يتطلبه ، وهو هاهنا . تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، وتقدست أسماؤه وصفاته ، وتضاعفت آلاؤه وعداته . قال الله تعالى ، مبينا لهم بطلان ما ذهبوا إليه ، وما عولوا عليه ، من إلهية هذا الذي قصاراه أن يكون حيوانا بهيما وشيطانا رجيما : أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا وقال : ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين فذكر أن هذا الحيوان لا يتكلم ، ولا يرد جوابا ولا يملك ضرا ولا نفعا ، ولا يهدي إلى رشد ، اتخذوه وهم ظالمون لأنفسهم عالمون في أنفسهم بطلان ما هم عليه من الجهل والضلال ، ولما سقط في أيديهم أي; ندموا على ما صنعوا ، ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين .
[ ص: 148 ] ولما رجع موسى ، عليه السلام ، إليهم ، ورأى ما هم عليه من عبادة العجل ، ومعه الألواح المتضمنة التوراة ، ألقاها ، فيقال : إنه كسرها . وهكذا هو عند أهل الكتاب ، وإن الله أبدله غيرها . وليس في اللفظ القرآني ما يدل على ذلك ، إلا أنه ألقاها حين عاين ما عاين . وعند أهل الكتاب ، أنهما كانا لوحين . وظاهر القرآن أنها ألواح متعددة ، ولم يتأثر بمجرد الخبر من الله تعالى ، عن عبادة العجل ، فأمره بمعاينة ذلك . ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، وابن حبان ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس الخبر كالمعاينة . ثم أقبل عليهم فعنفهم ، ووبخهم ، وهجنهم في صنيعهم ، هذا القبيح ، فاعتذروا إليه بما ليس بصحيح; قالوا : إنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري تحرجوا من تملك حلي آل فرعون ، وهم أهل حرب ، وقد أمرهم الله بأخذه ، وأباحه لهم ولم يتحرجوا بجهلهم ، وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الجسد ، الذي له خوار ، مع الواحد الأحد ، الفرد الصمد القهار . ثم أقبل على أخيه هارون ، عليهما السلام ، قائلا له : قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أي; هلا لما رأيت ما صنعوا اتبعتني فأعلمتني بما فعلوا ، فقال : إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل أي; تركتهم وجئتني ، وأنت قد استخلفتني فيهم ، قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين وقد كان هارون ، عليه السلام ، [ ص: 149 ] نهاهم عن هذا الصنيع الفظيع أشد النهي ، وزجرهم عنه أتم الزجر ، قال الله تعالى : ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم أي; إنما قدر الله أمر هذا العجل ، وجعله يخور فتنة واختبارا لكم . وإن ربكم الرحمن أي; لا هذا العجل فاتبعوني أي; فيما أقول لكم ، وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى يشهد الله لهارون ، عليه السلام ، وكفى بالله شهيدا ، أنه نهاهم وزجرهم عن ذلك ، فلم يطيعوه ولم يتبعوه ، ثم أقبل موسى ، عليه السلام ، على السامري قال فما خطبك يا سامري أي; ما حملك على ما صنعت . قال بصرت بما لم يبصروا به أي; رأيت جبرائيل ، وهو راكب فرسا فقبضت قبضة من أثر الرسول أي; من أثر فرس جبريل . وقد ذكر بعضهم أنه رآه وكان كلما وطئت بحوافرها على موضع ، اخضر وأعشب ، فأخذ من أثر حافرها ، فلما ألقاه في هذا العجل المصنوع من الذهب ، كان من أمره ما كان ، ولهذا قال : فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وهذا دعاء عليه بأن لا يمس أحدا; معاقبة له على مسه ما لم يكن له مسه . هذا معاقبة له في الدنيا ، ثم توعده في الأخرى فقال : وإن لك موعدا لن تخلفه قرئ : ( لن نخلفه ) . وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا قال : فعمد موسى ، عليه السلام ، إلى هذا العجل فحرقه ، قيل : بالنار . كما [ ص: 150 ] قاله قتادة ، وغيره . وقيل : بالمبارد . كما قاله علي ، وابن عباس ، وغيرهما . وهو نص أهل الكتاب . ثم ذراه في البحر ، وأمر بني إسرائيل فشربوا ، فمن كان من عابديه ، علق على شفاههم من ذلك الرماد منه ما يدل عليه ، وقيل : بل اصفرت ألوانهم .
ثم قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لهم : إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما وقال تعالى : إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين وهكذا وقع ، وقد قال بعض السلف وكذلك نجزي المفترين مسجلة لكل صاحب بدعة إلى يوم القيامة . ثم أخبر تعالى عن حلمه ورحمته بخلقه ، وإحسانه على عبيده في قبوله توبة من تاب إليه ، بتوبته عليه فقال : والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم لكن لم يقبل الله توبة عابدي العجل إلا بالقتل ، كما قال تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم [ البقرة : 54 ] . فيقال : إنهم أصبحوا يوما وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف ، وألقى الله عليه ضبابا ، حتى لا يعرف القريب قريبه ، ولا النسيب نسيبه ، ثم مالوا على عابديه ، فقتلوهم ، وحصدوهم . فيقال : إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفا . ثم قال تعالى : ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون استدل بعضهم بقوله : وفي نسختها على أنها تكسرت ، وفي هذا الاستدلال نظر ، وليس في اللفظ ما يدل على أنها تكسرت ، والله أعلم . وقد ذكر ابن عباس في حديث الفتون ، كما سيأتي ، أن عبادتهم العجل كانت على أثر خروجهم من البحر ، وما هو ببعيد; لأنهم حين خرجوا قالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة .
وهكذا عند أهل الكتاب ، فإن عبادتهم العجل كانت قبل مجيئهم بلاد بيت المقدس وذلك أنهم لما أمروا بقتل من عبد العجل ، قتلوا في أول يوم ثلاثة آلاف . ثم ذهب موسى يستغفر لهم ، فغفر لهم ، بشرط أن يدخلوا الأرض المقدسة .
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [ الأعراف : 155 - 157 ] . [ ص: 152 ] ذكر السدي ، وابن عباس ، وغيرهما ، أن هؤلاء السبعين كانوا علماء بني إسرائيل ، ومعهم موسى ، وهارون ، ويوشع ، وناداب ، وأبيهو ، ذهبوا مع موسى ، عليه السلام ، ليعتذروا عن بني إسرائيل في عبادة من عبد منهم العجل ، وكانوا قد أمروا أن يتطيبوا ويتطهروا ويغتسلوا ، فلما ذهبوا معه ، واقتربوا من الجبل ، وعليه الغمام ، وعمود النور ساطع ، وصعد موسى الجبل ، فذكر بنو إسرائيل أنهم سمعوا كلام الله ، وهذا قد وافقهم عليه طائفة من المفسرين ، وحملوا عليه قوله تعالى : وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [ البقرة : 57 ] . وليس هذا بلازم; لقوله تعالى : فأجره حتى يسمع كلام الله أي; مبلغا ، وهكذا هؤلاء سمعوه مبلغا من موسى ، عليه السلام . وزعموا أيضا أن السبعين رأوا الله ، وهذا غلط منهم; لأنهم لما سألوا الرؤية أخذتهم الرجفة; كما قال تعالى : وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون [ البقرة : 55 ، 56 ] . وقال هاهنا : [ ص: 153 ] فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي الآية قال محمد بن إسحاق : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا ، الخير فالخير وقال : انطلقوا إلى الله ، فتوبوا إليه مما صنعتم ، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا ، وطهروا ثيابكم . فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فطلب منه السبعون أن يسمعوا كلام الله ، فقال : أفعل . فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل في الغمام ، وقال للقوم : ادنوا . وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع ، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه ، فضرب دونه بالحجاب ، ودنا القوم ، حتى إذا دخلوا في الغمام ، وقعوا سجودا ، فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمر وينهاه; افعل . ولا تفعل . فلما فرغ الله من أمره ، وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم قالوا لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفة - وهي الصاعقة - فافتلتت أرواحهم ، فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ، ويدعوه ، ويرغب إليه ، ويقول : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا أي; لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء الذين عبدوا العجل منا ، فإنا برآء مما عملوا . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، [ ص: 154 ] وقتادة ، وابن جريج : إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل . وقوله : إن هي إلا فتنتك أي; اختبارك ، وابتلاؤك ، وامتحانك . قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس ، وغير واحد من علماء السلف والخلف . يعني : أنت الذي قدرت هذا ، وخلقت ما كان من أمر العجل ، اختبارا تختبرهم به ، كما قال لهم هارون من قبل : يا قوم إنما فتنتم به أي ; اختبرتم به ، ولهذا قال : تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أي ; من شئت أضللته باختبارك إياه ، ومن شئت هديته ، لك الحكم والمشيئة ، فلا مانع ولا راد لما حكمت وقضيت . أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين .
واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك أي; تبنا إليك ورجعنا وأنبنا . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وإبراهيم التيمي ، والضحاك ، والسدي ، وقتادة ، وغير واحد ، وهو كذلك في اللغة . قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء أي; أنا أعذب من شئت بما أشاء من الأمور ، التي أخلقها وأقدرها ، ورحمتي وسعت كل شيء كما ثبت في " الصحيحين " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : إن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض ، كتب كتابا ، فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون [ ص: 155 ] أي; فسأوجبها حتما لمن يتصف بهذه الصفات ، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الآية . وهذا فيه تنويه بذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته ، من الله تعالى لموسى ، عليه السلام ، في جملة ما ناجاه به ، وأعلمه وأطلعه عليه . وقد تكلمنا على هذه الآية وما بعدها في " التفسير " بما فيه كفاية ومقنع ، ولله الحمد والمنة . وقال قتادة : قال موسى : يا رب أجد في الألواح أمة ، خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، رب اجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : رب إني أجد في الألواح أمة ، هم الآخرون في الخلق ، السابقون في دخول الجنة ، رب اجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : رب إني أجد في الألواح أمة ، أناجيلهم في صدورهم ، يقرؤونها ، وكان من قبلهم يقرؤون كتابهم نظرا ، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه ، وإن الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئا ، لم يعطه أحدا من الأمم . قال : رب اجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : رب إني أجد في الألواح أمة ، يؤمنون بالكتاب الأول ، وبالكتاب الآخر ، ويقاتلون فضول الضلالة ، حتى يقاتلوا الأعور الكذاب ، فاجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : رب إني أجد في الألواح أمة ، صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ، ويؤجرون عليها ، وكان من قبلهم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها نارا فأكلتها ، وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير ، وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم قال : رب فاجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : رب فإني أجد في الألواح أمة ، إذا هم أحدهم [ ص: 156 ] بحسنة ، ثم لم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، قال : رب ، اجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون ، المشفوع لهم ، فاجعلهم أمتي . قال تلك أمة أحمد . قال لنا قتادة : فذكر لنا أن موسى ، عليه السلام ، نبذ الألواح وقال : اللهم اجعلني من أمة أحمد . وقد ذكر كثير من الناس ما كان من مناجاة موسى ، عليه السلام ، وأوردوا أشياء كثيرة لا أصل لها ، ونحن نذكر ما تيسر ذكره من الأحاديث والآثار ، بعون الله وتوفيقه ، وحسن هدايته ومعونته وتأييده .
قال الحافظ أبو حاتم ، محمد بن حاتم بن حبان في " صحيحه " : ذكر سؤال كليم الله ربه ، عز وجل عن أدنى أهل الجنة وأرفعهم منزلة; أخبرنا عمر بن سعيد الطائي بمنبج ، حدثنا حامد بن يحيى البلخي ، حدثنا سفيان ، حدثنا مطرف بن طريف وعبد الملك بن أبجر - شيخان صالحان - سمعنا الشعبي يقول : سمعت المغيرة بن شعبة يقول على المنبر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن موسى ، عليه السلام ، سأل ربه ، عز وجل : أي أهل الجنة أدنى منزلة؟ فقال : رجل يجيء بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة ، فيقال : ادخل الجنة . فيقول : كيف أدخل الجنة وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم . فيقال له : ترضى أن يكون لك من الجنة مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا؟ فيقول : نعم أي رب . [ ص: 157 ] فيقال : لك هذا ، ومثله ، ومثله . فيقول : أي رب ، رضيت . فيقال : إن لك هذا وعشرة أمثاله . فيقول : أي رب رضيت . فيقال له : لك مع هذا ما اشتهت نفسك ، ولذت عينك . وسأل ربه : أي أهل الجنة أرفع منزلة؟ قال : سأحدثك عنهم ، غرست كرامتهم بيدي ، وختمت عليها ، فلا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية . وهكذا رواه مسلم ، والترمذي ، كلاهما عن ابن أبي عمر ، عن سفيان ، وهو ابن عيينة ، به ، ولفظ مسلم : فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول : رضيت رب . فيقول : لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله . فيقول في الخامسة : رضيت رب . فيقول : هذا لك وعشرة أمثاله ، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك . فيقول : رضيت رب . قال : رب ، فأعلاهم منزلة؟ قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي ، وختمت عليها ، فلم تر عين ، ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب بشر قال : ومصداقه من كتاب الله فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون وقال الترمذي : حسن صحيح . قال : ورواه بعضهم عن الشعبي ، عن المغيرة ، فلم يرفعه ، والمرفوع أصح .
[ ص: 158 ] وقال ابن حبان : ذكر سؤال الكليم ربه عن خصال سبع; حدثنا عبد الله بن محمد بن سلم ، ببيت المقدس ، حدثنا حرملة بن يحيى ، حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث ، أن أبا السمح حدثه عن ابن حجيرة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : سأل موسى ربه ، عز وجل ، عن ست خصال كان يظن أنها له خالصة ، والسابعة لم يكن موسى يحبها; قال : يا رب أي عبادك أتقى؟ قال : الذي يذكر ولا ينسى . قال : فأي عبادك أهدى؟ قال الذي يتبع الهدى . قال : فأي عبادك أحكم؟ قال : الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه . قال : فأي عبادك أعلم؟ قال : عالم لا يشبع من العلم ، يجمع علم الناس إلى علمه . قال : فأي عبادك أعز؟ قال : الذي إذا قدر غفر . قال : فأي عبادك أغنى؟ قال : الذي يرضى بما يؤتى . قال : فأي عبادك أفقر؟ قال : صاحب منقوص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس الغنى عن ظهر ، إنما الغنى غنى النفس ، وإذا أراد الله بعبد خيرا جعل غناه في نفسه ، وتقاه في قلبه ، وإذا أراد بعبد شرا جعل فقره بين عينيه .
قال ابن حبان : قوله : صاحب منقوص . يريد به منقوص حالته ، يستقل ما أوتي ، ويطلب الفضل .
وقد رواه ابن جرير في " تاريخه " ، عن ابن حميد ، عن يعقوب [ ص: 159 ] القمي ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : سأل موسى ربه ، عز وجل ، فذكر نحوه ، وفيه : قال : أي رب ، فأي عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه ، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى ، أو ترده عن ردى . قال : أي رب ، فهل في الأرض أحد أعلم مني؟ قال : نعم ، الخضر . فسأل السبيل إليه ، فكان ما سنذكره بعد ، إن شاء الله تعالى وبه الثقة .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 5:08 pm | |
| ﴿ (66) ذكر حديث آخر بمعنى ما ذكره ابن حبان ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : إن موسى قال : أي رب ، عبدك المؤمن مقتر عليه في الدنيا . قال : ففتح له باب من الجنة ، فنظر إليها ، قال : يا موسى ، هذا ما أعددت له . فقال موسى : يا رب ، وعزتك وجلالك ، لو كان أقطع اليدين والرجلين ، يسحب على وجهه منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة ، وكان هذا مصيره ، لم ير بؤسا قط . قال : ثم قال : أي رب ، عبدك الكافر موسع عليه في الدنيا . قال : ففتح له باب إلى النار ، فيقول : يا موسى ، هذا ما أعددت له . فقال : أي رب ، وعزتك وجلالك ، لو كانت له الدنيا منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة ، وكان هذا مصيره ، لم ير خيرا قط تفرد به أحمد من هذا الوجه . وفي صحته نظر والله أعلم .
وقال ابن حبان : ذكر سؤال كليم الله ربه ، جل وعلا ، أن يعلمه شيئا يذكره به ، حدثنا ابن سلم ، حدثنا حرملة بن يحيى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، إن دراجا حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، [ ص: 161 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : قال موسى : يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به . قال : قل يا موسى : لا إله إلا الله . قال : يا رب كل عبادك يقول هذا . قال : قل : لا إله إلا الله . قال : إنما أريد شيئا تخصني به . قال : يا موسى لو أن أهل السماوات السبع والأرضين السبع في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة مالت بهم لا إله إلا اللهويشهد لهذا الحديث حديث البطاقة . وأقرب شيء إلى معناه الحديث المروي في " السنن " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفضل الدعاء ، دعاء عرفة ، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير .
وقال ابن أبي حاتم ، عند تفسير آية الكرسي : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، حدثنا أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن بني إسرائيل قالوا لموسى : هل ينام ربك؟ قال : اتقوا الله . فناداه ربه : يا موسى سألوك هل ينام ربك ، فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل ، ففعل موسى ، فلما ذهب من الليل ثلث ، نعس فوقع لركبتيه ، ثم انتعش ، [ ص: 162 ] فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس ، فسقطت الزجاجتان ، فانكسرتا . فقال : يا موسى ، لو كنت أنام ، لسقطت السماوات والأرض ، فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك . قال : وأنزل الله على رسوله آية الكرسي .
وقال ابن جرير : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا هشام بن يوسف ، عن أمية بن شبل ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى ، عليه السلام ، على المنبر ، قال : وقع في نفس موسى ، عليه السلام ، هل ينام الله ، عز وجل؟ فأرسل الله إليه ملكا ، فأرقه ثلاثا ، ثم أعطاه قارورتين ، في كل يد قارورة ، وأمره أن يحتفظ بهما ، قال : فجعل ينام ، وكادت يداه تلتقيان فيستيقظ ، فيحبس إحداهما على الأخرى ، حتى نام نومة ، فاصطفقت يداه ، فانكسرت القارورتان قال : ضرب الله له مثلا ، أن لو كان ينام ، لم تستمسك السماء والأرض . وهذا حديث غريب رفعه ، والأشبه أن يكون موقوفا ، وأن يكون أصله إسرائيليا .
وقال الله تعالى : [ ص: 163 ] وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين [ البقرة : 63 ، 64 ] . وقال تعالى : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون [ الأعراف : 171 ] . قال ابن عباس ، وغير واحد من السلف : لما جاءهم موسى بالألواح فيها التوراة ، أمرهم بقبولها ، والأخذ بها بقوة وعزم ، فقالوا : انشرها علينا ، فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة ، قبلناها . فقال : بل اقبلوها بما فيها . فراجعوه مرارا فأمر الله الملائكة فرفعوا الجبل على رءوسهم ، حتى صار كأنه ظلة ، أي غمامة على رءوسهم ، وقيل لهم : إن لم تقبلوها بما فيها ، وإلا سقط هذا الجبل عليكم . فقبلوا ذلك ، وأمروا بالسجود فسجدوا ، فجعلوا ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم ، فصارت سنة لليهود إلى اليوم ، يقولون لا سجدة أعظم من سجدة رفعت عنا العذاب . وقال سنيد بن داود ، عن حجاج بن محمد ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : فلما نشرها لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر ، إلا اهتز ، فليس على وجه الأرض يهودي صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ، ونفض لها رأسه . [ ص: 164 ] قال الله تعالى : ثم توليتم من بعد ذلك أي; ثم بعد مشاهدة هذا الميثاق العظيم ، والأمر الجسيم ، نكثتم عهودكم ومواثيقكم ، فلولا فضل الله عليكم ورحمته بأن تدارككم بالإرسال إليكم ، وإنزال الكتاب عليكم لكنتم من الخاسرين .
﴿ (67) قصة بقرة بني إسرائيل ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
قال الله تعالى : وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون [ البقرة : 67 - 73 ] .
قال ابن عباس ، وعبيدة السلماني ، وأبو العالية ، ومجاهد ، والسدي ، وغير واحد من السلف : كان رجل في بني إسرائيل كثير المال ، وكان شيخا كبيرا وله بنو أخ ، وكانوا يتمنون موته; ليرثوه ، فعمد أحدهم فقتله في الليل ، وطرحه في مجمع الطرق ، ويقال : على باب رجل منهم . فلما أصبح الناس اختصموا فيه ، وجاء ابن أخيه ، فجعل يصرخ ويتظلم ، فقالوا : ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله ، فجاء ابن أخيه فشكى أمر عمه إلى رسول الله موسى ، عليه السلام ، فقال موسى ، عليه السلام : أنشد الله رجلا عنده علم من أمر [ ص: 166 ] هذا القتيل إلا أعلمنا به . فلم يكن عند أحد منهم علم ، وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه ، عز وجل ، فسأل ربه ، عز وجل ، في ذلك فأمره الله أن يأمرهم بذبح بقرة ، فقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا يعنون; نحن نسألك عن أمر هذا القتيل ، وأنت تقول هذا . قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين أي; أعوذ بالله أن أقول عنه غير ما أوحى إلي . وهذا هو الذي أجابني حين سألته عما سألتموني عنه أن أسأله فيه . قال ابن عباس ، وعبيدة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، وأبو العالية ، وغير واحد : فلو أنهم عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لحصل المقصود منها ، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم . وقد ورد فيه حديث مرفوع ، وفي إسناده ضعف ، فسألوا عن صفتها ، ثم عن لونها ثم عن سنها فأجيبوا بما عز وجوده عليهم ، وقد ذكرنا في تفسير ذلك كله في " التفسير " .
والمقصود أنهم أمروا بذبح بقرة عوان; وهي الوسط بين النصف الفارض ، وهي الكبيرة ، والبكر ، وهي الصغيرة . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، وجماعة . ثم شددوا ، وضيقوا على أنفسهم ، فسألوا عن لونها ، فأمروا بصفراء فاقع لونها ، أي مشرب بحمرة ، تسر الناظرين ، وهذا اللون عزيز . ثم شددوا أيضا فقالوا : [ ص: 167 ] ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ففي الحديث المرفوع ، الذي رواه ابن أبي حاتم ، وابن مردويه : لولا أن بني إسرائيل استثنوا لما أعطوا وفي صحته نظر والله أعلم . قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون وهذه الصفات أضيق مما تقدم ، حيث أمروا بذبح بقرة ، ليست بالذلول ، وهي المذللة بالحراثة وسقي الأرض بالسانية ، مسلمة; وهي الصحيحة التي لا عيب فيها . قاله أبو العالية ، وقتادة . وقوله : لا شية فيها أي; ليس فيها لون يخالف لونها بل هي مسلمة من العيوب ومن مخالطة سائر الألوان غير لونها ، فلما حددها بهذه الصفات ، وحصرها بهذه النعوت والأوصاف ، قالوا الآن جئت بالحق ويقال : إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم ، كان بارا بأبيه ، فطلبوها منه ، فأبى عليهم ، فأرغبوه في ثمنها ، حتى - أعطوه فيما ذكر السدي - بوزنها ذهبا ، فأبى عليهم حتى أعطوه بوزنها عشر مرات ، فباعها منهم ، فأمرهم نبي الله موسى بذبحها ، فذبحوها وما كادوا يفعلون أي; وهم يترددون في أمرها . ثم أمرهم عن الله أن يضربوا ذلك القتيل ببعضها ، قيل : بلحم فخذها . وقيل : بالعظم الذي يلي الغضروف . وقيل : بالبضعة التي بين الكتفين ، فلما ضربوه ببعضها أحياه الله تعالى فقام وهو تشخب أوداجه ، فسأله نبي الله : من قتلك؟ قال قتلني ابن أخي . ثم عاد [ ص: 168 ] ميتا كما كان ، قال الله تعالى : كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون أي; كما شاهدتم إحياء هذا القتيل ، عن أمر الله له ، كذلك أمره في سائر الموتى ، إذا شاء إحياءهم أحياهم في ساعة واحدة ، كما قال : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة الآية [ لقمان : 28 ] .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 5:11 pm | |
| ﴿ (68) قصة موسى والخضر ، عليهما الصلاة والسلام ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
قال الله تعالى : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم . ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا [ الكهف : 60 - 82 ] .
[ ص: 170 ] قال بعض أهل الكتاب : إن موسى هذا الذي رحل إلى الخضر ، هو موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل . وتابعهم على ذلك بعض من يأخذ من صحفهم ، وينقل عن كتبهم ، منهم نوف بن فضالة الحميري الشامي البكالي ، ويقال : إنه دمشقي . وكانت أمه زوجة كعب الأحبار . والصحيح الذي دل عليه ظاهر سياق القرآن ، ونص الحديث الصحيح الصريح المتفق عليه ، أنه موسى بن عمران ، صاحب بني إسرائيل .
قال البخاري : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرني سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل . قال ابن عباس : كذب عدو الله; حدثنا أبي بن كعب ، أنه سمع رسول الله [ ص: 171 ] صلى الله عليه وسلم يقول إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل ، فسئل : أي الناس أعلم؟ فقال : أنا . فعتب الله عليه; إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه ، إن لي عبدا بمجمع البحرين ، هو أعلم منك . قال موسى : يا رب ، وكيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم . فأخذ حوتا فجعله بمكتل ، ثم انطلق ، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون ، حتى إذا أتيا الصخرة ، وضعا رءوسهما فناما ، واضطرب الحوت في المكتل ، فخرج منه فسقط في البحر ، واتخذ سبيله في البحر سربا ، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء ، فصار عليه مثل الطاق ، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، حتى إذا كان من الغد " قال " موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به " قال " له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال : فكان للحوت سربا ، ولموسى ولفتاه عجبا قال : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال : فرجعا يقصان أثرهما ، حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجى بثوب ، فسلم عليه موسى ، فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام . قال : أنا موسى . قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم ، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا . " قال إنك لن تستطيع معي صبرا " ، يا موسى ، إني على علم من علم الله علمنيه الله ، لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه ، فقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا . قال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا [ ص: 172 ] فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت سفينة ، فكلمهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر ، فحملوهم بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول ، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها " لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا " قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأولى من موسى نسيانا . قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة ، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر . ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل ، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله ، فقال له موسى : " أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " قال : وهذه أشد من الأولى ، " قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض " قال : مائل . فقال الخضر بيده " فأقامه " فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ، ولم يضيفونا " لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان [ ص: 173 ] صبر ، حتى يقص الله علينا من خبرهما قال سعيد بن جبير : فكان ابن عباس يقرأ : ( وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا ) . وكان يقرأ : ( وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ) .
ثم رواه البخاري أيضا عن قتيبة ، عن سفيان بن عيينة ، بإسناده نحوه . وفيه : فخرج موسى ، ومعه فتاه يوشع بن نون ، ومعهما الحوت ، حتى انتهيا إلى الصخرة ، فنزلا عندها . قال : فوضع موسى رأسه فنام قال سفيان : وفي حديث غير عمرو ، قال : وفي أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة . لا يصيب من مائها شيء إلا حيي ، فأصاب الحوت من ماء تلك العين ، قال : فتحرك ، وانسل من المكتل ، ودخل البحر ، فلما استيقظ قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا كذا قال . وساق الحديث ، وقال : ووقع عصفور على حرف السفينة ، فغمس منقاره في البحر ، فقال الخضر لموسى : ما علمي وعلمك وعلم الخلائق ، في علم الله ، إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمام الحديث .
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف ، أن ابن جريج أخبرهم ، قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، وعمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير - يزيد أحدهما على صاحبه ، وغيرهما قد سمعته يحدثه عن سعيد بن جبير - قال : إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال : سلوني . فقلت : أي أبا عباس ، جعلني الله فداك ، بالكوفة رجل قاص ، يقال له : نوف . يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل . أما عمرو فقال لي : قال : قد كذب عدو الله .
[ ص: 174 ] وأما يعلى ، فقال لي : قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : موسى رسول الله ، قال : ذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ، ولى ، فأدركه رجل ، فقال : أي رسول الله ، هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال : لا . فعتب الله عليه; إذ لم يرد العلم إلى الله . قيل : بلى . قال : أي رب فأين؟ قال : بمجمع البحرين . قال : أي رب ، اجعل لي علما أعلم ذلك به . قال لي عمرو : قال : حيث يفارقك الحوت . وقال لي يعلى : قال : خذ حوتا ميتا ، حيث ينفخ فيه الروح ، فأخذ حوتا فجعله في مكتل ، فقال لفتاه : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت . قال ما كلفت كبيرا فذلك قوله : وإذ قال موسى لفتاه يوشع بن نون - ليست عن سعيد بن جبير - قال : فبينما هو في ظل صخرة ، في مكان ثريان ; إذ تضرب الحوت ، وموسى نائم ، فقال فتاه : لا أوقظه . حتى إذا استيقظ ، نسي أن يخبره ، وتضرب الحوت حتى دخل البحر ، فأمسك الله عنه جرية البحر ، حتى كأن أثره في حجر قال لي عمرو : هكذا كأن أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما . [ ص: 175 ] لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال : " وقد قطع الله عنك النصب " ليست هذه عن سعيد ، " أخبره فرجعا ، فوجدا خضرا ، قال لي عثمان بن أبي سليمان : " على طنفسة خضراء ، على كبد البحر " . قال سعيد : " مسجى بثوبه ، قد جعل طرفه تحت رجليه ، وطرفه تحت رأسه ، فسلم عليه موسى ، فكشف عن وجهه ، وقال : هل بأرض من سلام؟ من أنت؟ قال : أنا موسى . قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم . قال : فما شأنك؟ قال : جئتك ل " تعلمني مما علمت رشدا " قال : أما يكفيك أن التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك؟ يا موسى ، إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه ، وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه ، فأخذ طائر بمنقاره من البحر ، فقال : والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله ، إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر ، حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارا ، تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر ، عرفوه فقالوا : عبد الله الصالح؟ " قال : فقلنا لسعيد : خضر؟ قال : نعم . " لا نحمله بأجر فخرقها ووتد فيها وتدا " قال " موسى : أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا - قال مجاهد : منكرا - قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا كانت الأولى ، نسيانا ، والوسطى شرطا ، والثالثة عمدا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال يعلى : قال سعيد : وجد غلمانا يلعبون ، فأخذ غلاما كافرا ظريفا ، فأضجعه ثم ذبحه بالسكين [ ص: 176 ] قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لم تعمل بالخبث " . ابن عباس قرأها : ( زكية زاكية مسلمة ) . كقولك : غلاما زكيا . فانطلقا فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه " قال بيده هكذا ورفع يده فاستقام . قال يعلى : حسبت أن سعيدا قال : " فمسحه بيده فاستقام قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال سعيد : أجرا نأكله وكان وراءهم ( وكان أمامهم ) قرأها ابن عباس . أمامهم ملك يزعمون عن غير سعيد أنه هدد بن بدد والغلام المقتول يزعمون : جيسور . ملك يأخذ كل سفينة غصبا فإذا هي مرت به يدعها بعيبها فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها . منهم من يقول : سدوها بقارورة . ومنهم من يقول : بالقار . فكان أبواه مؤمنين وكان كافرا فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا أي; يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما لقوله : أقتلت نفسا زكية " وأقرب رحما " هما به أرحم منها بالأول ، الذي قتل خضر . وزعم غير سعيد بن جبير أنهما أبدلا جارية ، وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد : إنها جارية .
[ ص: 177 ] وقد رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : خطب موسى بني إسرائيل ، فقال : ما أحد أعلم بالله وبأمره مني . فأمر أن يلقى هذا الرجل . فذكر نحو ما تقدم .
وهكذا رواه محمد بن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنحو ما تقدم أيضا ، ورواه العوفي عنه موقوفا .
وقال الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري ، في صاحب موسى ، فقال ابن عباس : هو خضر . فمر بهما أبي بن كعب ، فدعاه ابن عباس ، فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه ، فهل سمعت من رسول الله فيه شيئا؟ قال : نعم . وذكر الحديث ، وقد تقصينا طرق هذا الحديث ، وألفاظه في تفسير سورة الكهف ، ولله الحمد والمنة .
وقوله : وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا [ ص: 178 ] قال السهيلي : وهما أصرم وصريم ، ابنا كاشح . وكان تحته كنز لهما قيل : كان ذهبا . قاله عكرمة ، وقيل : علما . قاله ابن عباس ، والأشبه أنه كان لوحا من ذهب ، مكتوبا فيه علم .
قال البزار : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا بشر بن المنذر ، حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي ، عن عياش بن عباس الغساني ، عن ابن حجيرة ، عن أبي ذر ، رفعه قال : إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه لوح من ذهب مصمت : عجبت لمن أيقن بالقدر كيف نصب ، وعجبت لمن ذكر النار ثم ضحك ، وعجبت لمن ذكر الموت ثم غفل لا إله إلا الله . وهكذا روي عن الحسن البصري ، وعمر مولى غفرة ، وجعفر الصادق ، نحو هذا . وقوله : وكان أبوهما صالحا وقد قيل : إنه كان الأب السابع ، وقيل : العاشر . وعلى كل تقدير ، فيه دلالة على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته ، فالله المستعان .
وقوله رحمة من ربك دليل على أنه كان نبيا ، وأنه ما فعل شيئا من تلقاء نفسه ، بل بأمر ربه ، فهو نبي وقيل : رسول . وقيل : ولي . وأغرب [ ص: 179 ] من هذا من قال : كان ملكا . قلت : وقد أغرب جدا من قال : هو ابن فرعون . وقيل : إنه ابن ضحاك الذي ملك الدنيا ألف سنة . قال ابن جرير والذي عليه جمهور أهل الكتاب ، أنه كان في زمن أفريدون . ويقال : إنه كان على مقدمة ذي القرنين الذي قيل : إنه كان أفريدون ، وذو الفرس هو الذي كان في زمن الخليل . وزعموا أنه شرب من ماء الحياة ، فخلد ، وهو باق إلى الآن . وقيل : إنه من ولد بعض من آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل . وقيل : اسمه ملكان . وقيل : إرميا بن حلقيا . وقيل : كان نبيا في زمن سباسب بن لهراسب . قال ابن جرير : وقد كان بين أفريدون وبين سباسب دهور طويلة ، لا يجهلها أحد من أهل العلم بالأنساب . قال ابن جرير ، والصحيح أنه كان في زمن أفريدون ، واستمر حيا إلى أن أدركه موسى ، عليه السلام ، وكانت نبوة موسى في زمن منوشهر ، الذي هو من ولد إيرج بن أفريدون ، أحد ملوك الفرس وكان إليه الملك بعد جده أفريدون لعهده ، وكان عادلا ، وهو أول من خندق الخنادق ، وأول من جعل في كل قرية دهقانا ، وكانت مدة ملكه قريبا من مائة وخمسين سنة . ويقال : إنه كان من سلالة إسحاق بن إبراهيم . وقد ذكر عنه من الخطب الحسان ، والكلم البليغ النافع الفصيح ، ما يبهر العقل ، ويحير السامع ، وهذا يدل على أنه من سلالة الخليل . والله أعلم .
[ ص: 180 ] وقد قال الله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم [ آل عمران : 81 ] .
فأخذ الله ميثاق كل نبي على أن يؤمن بمن يجيء بعده من الأنبياء ، وينصره ، فلو كان الخضر حيا في زمانه ، لما وسعه إلا اتباعه ، والاجتماع به ، والقيام بنصره ، ولكان من جملة من تحت لوائه يوم بدر ، كما كان تحتها جبريل وسادات من الملائكة ، وقصارى الخضر ، عليه السلام ، أن يكون نبيا ، وهو الحق ، أو رسولا ، كما قيل ، أو ملكا فيما ذكر ، وأيا ما كان ، فجبريل رئيس الملائكة ، وموسى أشرف من الخضر ، ولو كان حيا لوجب عليه الإيمان بمحمد ونصرته ، فكيف إن كان الخضر وليا ، كما يقوله طوائف كثيرون ، فأولى أن يدخل في عموم البعثة ، وأحرى .
ولم ينقل في حديث حسن ، بل ولا ضعيف يعتمد ، أنه جاء يوما واحدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا اجتمع به ، وما ذكر من حديث التعزية فيه ، وإن كان الحاكم قد رواه ، فإسناده ضعيف . والله أعلم . وسنفرد لخضر ترجمة على حدة بعد هذا .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 5:25 pm | |
| ﴿ (69) ذكر الحديث الملقب بحديث الفتون المتضمن قصة موسى مبسوطة من أولها إلى آخرها ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
قال الإمام أبو عبد الرحمن النسائي ، في كتاب التفسير من سننه ، عند قوله تعالى في سورة " طه " : وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا .
( حديث الفتون ) : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا أصبغ بن زيد ، حدثنا القاسم بن أبي أيوب ، أخبرني سعيد بن جبير ، قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول الله تعالى لموسى : وفتناك فتونا . فسألته عن الفتون : ما هو؟ فقال : استأنف النهار يا ابن جبير ، فإن لها حديثا طويلا . فلما أصبحت ، غدوت إلى ابن عباس; لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون ، فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم ، عليه السلام ، أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ، ما يشكون فيه ، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم . فقال فرعون : فكيف ترون؟ فائتمروا ، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار ، يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودا ذكرا [ ص: 182 ] إلا ذبحوه ففعلوا ذلك ، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، والصغار يذبحون ، قالوا : توشكون أن تفنوا بني إسرائيل ، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ، الذي كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر ، فيقل نباتهم ، ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار ، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم ، فتخافوا مكاثرتهم إياكم ، ولن يفنوا بمن تقتلون ، وتحتاجون إليهم . فأجمعوا أمرهم على ذلك ، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة . فلما كان من قابل ، حملت بموسى ، عليه السلام ، فوقع في قلبها الهم والحزن - وذلك من الفتون يا ابن جبير - ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به ; فأوحى الله إليها : أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين . فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ، وتلقيه في اليم ، فلما ولدت فعلت ذلك ، فلما توارى عنها ابنها ، أتاها الشيطان ، فقالت في نفسها : ما فعلت بابني؟ لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه . فانتهى الماء به حتى أوفى عند فرضة تستقي منها جواري امرأة فرعون ، فلما رأينه أخذنه ، فهممن أن يفتحن [ ص: 183 ] التابوت ، فقال بعضهن : إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه ، لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى دفعنه إليها ، فلما فتحته رأت فيه غلاما ، فألقي عليه منها محبة ، لم تلق منها على أحد قط ، وأصبح فؤاد أم موسى فارغا من ذكر كل شيء ، إلا من ذكر موسى ، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون; ليذبحوه - وذلك من الفتون يا ابن جبير - فقالت لهم : أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل ، حتى آتي فرعون ، فأستوهبه منه ، فإن وهبه لي ، كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه ، لم ألمكم . فأتت فرعون فقالت : قرة عين لي ولك [ القصص : 9 ] . فقال فرعون : يكون لك ، فأما لي ، فلا حاجة لي فيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته ، لهداه الله كما هداها ، ولكن الله حرمه ذلك فأرسلت إلى من حولها ، إلى كل امرأة لها لبن ، تختار له ظئرا ، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه ، لم يقبل على ثديها ، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك فأمرت به ، فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها ، فلم يقبل ، وأصبحت أم موسى والها ، فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا؟ أحي ابني أم أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه ، فبصرت به أخته عن جنب - والجنب; أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه لا [ ص: 184 ] يشعر به فقالت من الفرح ، حين أعياهم الظؤورات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم ، وهم له ناصحون . فأخذوها فقالوا : ما يدريك ما نصحهم؟ هل تعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك - وذلك من الفتون يا ابن جبير - فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه ، رغبتهم في صهر الملك ، ورجاء منفعة الملك . فأرسلوها ، فانطلقت إلى أمها ، فأخبرتها الخبر ، فجاءت أمه فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها ، فمصه حتى امتلأ جنباه ريا ، وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا ، فأرسلت إليها ، فأتت بها وبه . فلما رأت ما يصنع بها ، قالت : امكثي ترضعي ابني هذا; فإني لم أحب شيئا حبه قط . قالت أم موسى : لا أستطيع أن أترك بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه ، فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا ، فعلت ، فإني غير تاركة بيتي وولدي .
وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها ، فتعاسرت على امرأة فرعون ، وأيقنت أن الله منجز موعوده ، فرجعت إلى بيتها من يومها ، وأنبته الله نباتا حسنا ، وحفظه لما قد قضى فيه ، فلم يزل بنو إسرائيل ، وهم في ناحية القرية ، ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم ، فلما ترعرع ، قالت امرأة فرعون لأم موسى : أريني ابني . فوعدتها يوما تريها إياه فيه ، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤورها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة; لأرى ذلك فيه ، وأنا باعثة أمينا يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم . فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت [ ص: 185 ] أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون ، فلما دخل عليها نحلته ، وأكرمته وفرحت به ، ونحلت أمه بحسن أثرها عليه ، ثم قالت : لآتين به فرعون ، فلينحلنه ، وليكرمنه . فلما دخلت به عليه ، جعله في حجره ، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض ، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه ، أنه زعم أنه يربك ويعلوك ، ويصرعك؟ فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه - وذلك من الفتون يا ابن جبير ، بعد كل بلاء ابتلي به وأريد به فتونا - فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون ، فقالت : ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال : ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني؟ فقالت : اجعل بيني وبينك أمرا تعرف فيه الحق; ائت بجمرتين ، ولؤلؤتين ، فقربهن إليه ، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين ، عرفت أنه يعقل . وإن تناول الجمرتين ، ولم يرد اللؤلؤتين ، علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل . فقرب إليه ، فتناول الجمرتين ، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده ، فقالت المرأة : ألا ترى؟ فصرفه الله عنه ، بعد ما كان هم به ، وكان الله بالغا فيه أمره ، فلما بلغ أشده ، وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه ، بظلم ولا سخرة ، حتى امتنعوا كل الامتناع ، فبينما موسى ، عليه السلام ، يمشي في ناحية المدينة ، إذا هو برجلين يقتتلان ، أحدهما فرعوني ، والآخر إسرائيلي ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى غضبا شديدا; لأنه تناوله ، وهو يعلم منزلته من بني [ ص: 186 ] إسرائيل ، وحفظه لهم لا يعلم الناس إلا أنه من الرضاع إلا أم موسى ، إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره ، فوكز موسى الفرعوني ، فقتله ، وليس يراهما أحد إلا الله ، عز وجل ، والإسرائيلي ، فقال موسى حين قتل الرجل : هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ثم قال : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم [ القصص : 15 ، 16 ] . فأصبح في المدينة خائفا يترقب الأخبار ، فأتي فرعون ، فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون ، فخذ لنا بحقنا ، ولا ترخص لهم . فقال : ابغوني قاتله ، من يشهد عليه؟ فإن الملك ، وإن كان صفوه مع قومه ، لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت ، فاطلبوا لي علم ذلك ، آخذ لكم بحقكم . فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة ، إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي ، يقاتل رجلا من آل فرعون آخر ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فصادف موسى قد ندم على ما كان منه ، وكره الذي رأى ، فغضب الإسرائيلي ، وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فقال للإسرائيلي ، لما فعل بالأمس واليوم : إنك لغوي مبين [ القصص : 18 ] . فنظر الإسرائيلي إلى موسى ، بعد ما قال له ، ما قال فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس ، الذي قتل فيه الفرعوني ، فخاف أن يكون بعد ما قال له : إنك لغوي مبين . أن يكون إياه أراد ، ولم يكن أراده ، إنما أراد الفرعوني ، فخاف الإسرائيلي ، وقال : يا موسى ، أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ وإنما قال له; مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا ، [ ص: 187 ] وانطلق الفرعوني ، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر ، حين يقول : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى ، فأخذ رسل فرعون الطريق الأعظم ، يمشون على هينتهم يطلبون موسى ، وهم لا يخافون أن يفوتهم ، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة ، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره - وذلك من الفتون يا ابن جبير - فخرج موسى متوجها نحو مدين ، لم يلق بلاء قبل ذلك وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه ، عز وجل ، فإنه قال : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان [ القصص : 22 ، 23 ] . يعني بذلك حابستين غنمهما ، فقال لهما : ما خطبكما معتزلتين ، لا تسقيان مع الناس؟ قالتا : ليس لنا قوة نزاحم القوم ، وإنما ننتظر فضول حياضهم . فسقى لهما ، فجعل يغرف من الدلو ماء كثيرا ، حتى كان أول الرعاء ، وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما ، وانصرف موسى ، فاستظل بشجرة ، فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [ القصص : 24 ] . واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا ، فقال : إن لكما اليوم لشأنا . فأخبرتاه بما صنع موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه ، فأتت موسى فدعته ، فلما كلمه قال : لا تخف نجوت من القوم الظالمين [ القصص : 25 ] . ليس لفرعون ولا لقومه علينا من سلطان ، ولسنا في مملكته قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين [ القصص : 26 ] . فاحتملته الغيرة على [ ص: 188 ] أن قال لها : ما يدريك ما قوته ، وما أمانته؟ فقالت : أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا ، لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه ، وأما الأمانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له فلما علم أني امرأة صوب رأسه ، فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك ، ثم قال لي : امشي خلفي ، وانعتي لي الطريق . فلم يفعل هذا إلا وهو أمين . فسري عن أبيها ، وصدقها ، وظن به الذي قالت ، فقال له : هل لك أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين [ القصص : 27 ] . ففعل ، فكانت على نبي الله موسى ثماني سنين واجبة ، وكانت السنتان عدة منه ، فقضى الله عنه عدته ، فأتمها عشرا .
قال سعيد بن جبير : فلقيني رجل من أهل النصرانية ، من علمائهم ، قال : هل تدري أي الأجلين قضى موسى؟ قلت : لا . وأنا يومئذ لا أدري ، فلقيت ابن عباس ، فذكرت ذلك له فقال : أما علمت أن ثمانية كانت على نبي الله واجبة؟ لم يكن نبي الله لينقص منها شيئا وتعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي وعده ، فإنه قضى عشر سنين . فلقيت النصراني ، فأخبرته ذلك ، فقال : الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك . قلت : أجل ، وأولى .
فلما سار موسى بأهله ، كان من أمر النار ، والعصا ، ويده ، ما قص الله عليك في القرآن ، فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل ، وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام وسأل ربه أن يعينه بأخيههارون ، ويكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، [ ص: 189 ] فآتاه الله ، عز وجل ، سؤله وحل عقدة من لسانه ، وأوحى الله إلى هارون ، فأمره أن يلقاه ، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون ، فانطلقا جميعا إلى فرعون ، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما ، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد ، فقالا : إنا رسولا ربك . فقال : فمن ربكما؟ فأخبره بالذي قص الله عليك في القرآن ، قال : فما تريدان؟ وذكره القتيل ، فاعتذر بما قد سمعت قال : أريد أن تؤمن بالله ، وترسل معي بني إسرائيل . فأبى عليه ، وقال : ائت بآية إن كنت من الصادقين . فألقى عصاه فإذا هي حية عظيمة ، فاغرة فاها ، مسرعة إلى فرعون فلما رآها فرعون ، قاصدة إليه خافها ، فاقتحم عن سريره ، واستغاث بموسى أن يكفها عنه ، ففعل ، ثم أخرج يده من جيبه ، فرآها بيضاء من غير سوء - يعني من غير برص - ثم ردها فعادت إلى لونها الأول ، فاستشار الملأ حوله فيما رأى ، فقالوا له : هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى . يعني ملكهم الذي هم فيه ، والعيش ، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب ، وقالوا له : اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير ; حتى تغلب بسحرك سحرهما . فأرسل إلى المدائن ، فحشر له كل ساحر متعالم ، فلما أتوا فرعون ، قالوا : بم يعمل هذا الساحر؟ قالوا : يعمل بالحيات . قالوا : فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل ، وما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم : أنتم أقاربي وخاصتي ، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم . فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى . قال سعيد : فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة ، هو يوم عاشوراء ، فلما اجتمعوا في [ ص: 190 ] صعيد قال الناس بعضهم لبعض انطلقوا فلنحضر هذا الأمر; لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين . يعنون موسى وهارون ، استهزاء بهما ، فقالوا : يا موسى - بقدرتهم بسحرهم - إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين . قال : بل ألقوا . فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون [ الشعراء : 44 ] . فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة ، فأوحى الله إليه : أن ألق عصاك ، فلما ألقاها ، صارت ثعبانا عظيمة ، فاغرة فاها ، فجعلت العصي تلتبس بالحبال ، حتى صارت جرزا على الثعبان تدخل فيه ، حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته فلما عرف السحرة ذلك ، قالوا : لو كان هذا سحرا لم تبلغ من سحرنا كل هذا ولكنه أمر من الله تعالى ، آمنا بالله وبما جاء به موسى ، ونتوب إلى الله مما كنا عليه . فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه ، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون ، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ، وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو لله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه ، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه ، وإنما كان حزنها وهمها لموسى ، فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة ، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا مضت أخلف موعده وقال : هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم آيات مفصلات ، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ، ويوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا كف ذلك عنه ، أخلف موعده ، ونكث عهده ، حتى [ ص: 191 ] أمر موسى بالخروج بقومه ، فخرج بهم ليلا ، فلما أصبح فرعون ، ورأى أنهم قد مضوا ، أرسل في المدائن حاشرين ، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة ، وأوحى الله إلى البحر : إذا ضربك عبدي موسى بعصاه ، فانفلق اثنتي عشرة فرقة ، حتى يجوز موسى ومن معه ، ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه . فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا ، وانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله ، عز وجل ، فلما تراءى الجمعان وتقاربا ، قال أصحاب موسى : إنا لمدركون افعل ما أمرك به ربك ، فإنه لم يكذب ولم تكذب . قال : وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه ، ثم ذكر بعد ذلك العصا ، فضرب البحر بعصاه ، حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى ، فانفرق البحر كما أمره ربه ، وكما وعد موسى ، فلما أن جاوز موسى وأصحابه كلهم البحر ، ودخل فرعون وأصحابه ، التقى عليهم البحر كما أمر ، فلما جاوز موسى ، قال أصحابه : إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ، ولا نؤمن بهلاكه . فدعا ربه ، فأخرجه له ببدنه ، حتى استيقنوا بهلاكه ، ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم ، قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون [ الأعراف : 138 ، 139 ] . قد رأيتم من العبر ، وسمعتم ما يكفيكم ومضى ، فأنزلهم موسى منزلا ، وقال أطيعوا هارون ، فإني قد استخلفته عليكم ، فإني ذاهب إلى ربي . وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها ، فلما أتى ربه ، عز وجل ، وأراد أن [ ص: 192 ] يكلمه في ثلاثين يوما ، وقد صامهن ، ليلهن ونهارهن وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم ، فتناول موسى شيئا من نبات الأرض فمضغه ، فقال له ربه حين أتاه : لم أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان ، قال : يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح . قال : أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب من ريح المسك ارجع فصم عشرا ، ثم ائتني . ففعل موسى ما أمره به ربه ، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ، ساءهم ذلك ، وكان هارون قد خطبهم وقال : إنكم خرجتم من مصر ، ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ، ولكم فيها مثل ذلك ، وأنا أرى أن تحتسبوا ما لكم عندهم ، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ، ولا عارية ، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ، ولا ممسكيه لأنفسنا . فحفر حفيرا ، وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير . ثم أوقد عليه النار فأحرقه ، فقال : لا يكون لنا ولا لهم .
وكان السامري من قوم يعبدون البقر ، جيران لبني إسرائيل ، ولم يكن من بني إسرائيل ، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا ، فقضي له أن رأى أثرا فقبض منه قبضة ، فمر بهارون ، فقال له هارون : يا سامري ، ألا تلقي ما في يدك؟ وهو قابض عليه ، لا يراه أحد طوال ذلك ، فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد . فألقاها ودعا له هارون ، فقال : أريد أن تكون عجلا . فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية ، أو نحاس ، أو حديد ، [ ص: 193 ] فصار عجلا أجوف ، ليس فيه روح ، له خوار .
قال ابن عباس : لا والله ما كان له صوت قط ، إنما كانت الريح تدخل من دبره ، وتخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك ، فتفرق بنو إسرائيل فرقا ، فقالت فرقة : يا سامري ، ما هذا ، وأنت أعلم به؟ قال : هذا ربكم ، ولكن موسى أضل الطريق . وقالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى ، فإن كان ربنا ، لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه ، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى . وقالت فرقة : هذا من عمل الشيطان ، وليس بربنا ، ولا نؤمن به ، ولا نصدق . وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل ، وأعلنوا التكذيب به ، فقال لهم هارون عليه السلام : ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن [ طه : 90 ] . ليس هذا ، قالوا : فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا؟ هذه أربعون يوما قد مضت . قال سفهاؤهم : أخطأ ربه ، فهو يطلبه ويبتغيه . فلما كلم الله موسى وقال له ما قال ، أخبره بما لقي قومه من بعده ، فرجع إلى قومه غضبان أسفا ، فقال لهم ما سمعتم ما في القرآن ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه وألقى الألواح من الغضب ، ثم إنه عذر أخاه بعذره ، واستغفر له ، فانصرف إلى السامري ، فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال : فقبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها ، وعميت عليكم فقذفتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا [ طه : 96 ، 97 ] . ولو كان إلها لم نخلص إلى ذلك منه ، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة ، واغتبط [ ص: 194 ] الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون ، فقالوا جماعتهم : يا موسى سل لنا أن يفتح لنا باب توبة نصنعها ، فيكفر عنا ما عملنا . فاختار موسى قومه سبعين رجلا لذلك ، لا يألو الخير ، خيار بني إسرائيل ، ومن لم يشرك في العجل ، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة ، فرجفت بهم الأرض ، فاستحيا نبي الله ، عليه السلام ، من قومه ، ومن وفده ، حين فعل بهم ما فعل ، فقال : لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل ، وإيمان به ، فلذلك رجفت بهم الأرض ، فقال :ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل [ الأعراف : 156 ، 157 ] .
فقال : يا رب ، سألتك التوبة لقومي ، فقلت : إن رحمتك كتبتها لقوم غير قومي فليتك أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة . فقال له : إن توبتهم أن يقتل كل رجل من لقي من والد وولد ، فيقتله بالسيف ، لا يبالي من قتل في ذلك الموطن . وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون واطلع الله من ذنوبهم ، فاعترفوا بها ، وفعلوا ما أمروا ، وغفر الله للقاتل والمقتول ، ثم سار بهم موسى ، عليه السلام ، متوجها نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالذي أمر به من الوظائف فثقل ذلك عليهم ، وأبوا أن يقروا بها ، ونتق [ ص: 195 ] الله عليهم الجبل كأنه ظلة ، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم ، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم يصغون ينظرون إلى الجبل ، والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل ، مخافة أن يقع عليهم ، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة ، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون ، خلقهم خلق منكر - وذكر من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها - فقالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين لا طاقة لنا بهم ، ولا ندخلها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون - قيل ليزيد : هكذا قرأه؟ قال : نعم - من الجبارين آمنا بموسى ، وخرجا إليه ، فقالوا : نحن أعلم بقومنا ، إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم ، فإنهم لا قلوب لهم ، ولا منعة عندهم ، فادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون . ويقول أناس : إنهما من قوم موسى . فقال الذين يخافون; بنو إسرائيل : قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون [ المائدة : 24 ] . فأغضبوا موسى ، فدعا عليهم ، وسماهم فاسقين ، ولم يدع عليهم قبل ذلك; لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم ، حتى كان يومئذ ، فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم فاسقين ، فحرمها عليهم أربعين سنة ، يتيهون في الأرض ، يصبحون كل يوم ، فيسيرون ليس لهم قرار ، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ ، وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا وأمر موسى فضربه بعصاه ، [ ص: 196 ] فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، في كل ناحية ثلاثة أعين ، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها ، فلا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر بالمكان الذي كان فيه بالأمس . رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس حدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل ، فقال : كيف يفشي عليه ، ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك؟ فغضب ابن عباس ، فأخذ بيد معاوية ، فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري ، فقال له : يا أبا إسحاق ، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه ، أم الفرعوني؟ قال : إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع الإسرائيلي الذي شهد ذلك وحضره . هكذا ساق هذا الحديث الإمام النسائي ، وأخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، في تفسيرهما من حديث يزيد بن هارون ، والأشبه ، والله أعلم ، أنه موقوف ، وكونه مرفوعا فيه نظر ، وغالبه متلقى من الإسرائيليات ، وفيه شيء يسير مصرح برفعه في أثناء الكلام ، وفي بعض ما فيه نظر ونكارة ، والأغلب أنه من كلام كعب الأحبار ، وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 5:27 pm | |
| ﴿ (70) ذكر بناء قبة الزمان ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
قال أهل الكتاب : وقد أمر الله موسى ، عليه السلام ، بعمل قبة من خشب الشمشار ، وجلود الأنعام ، وشعر الأغنام ، وأمر بزينتها بالحرير المصبغ ، والذهب ، والفضة ، على كيفيات مفصلة عند أهل الكتاب ، ولها عشر سرادقات ، طول كل واحد ثمانية وعشرون ذراعا ، وعرضه أربعة أذرع ، ولها أربعة أبواب ، وأطناب من حرير ، ودمقس مصبغ ، وفيها رفوف وصفائح ، من ذهب وفضة ، ولكل زاوية بابان ، وأبواب أخر كبيرة ، وستور من حرير مصبغ ، وغير ذلك مما يطول ذكره ، وبعمل تابوت من خشب الشمشار ، يكون طوله ذراعين ونصفا ، وعرضه ذراعين ، وارتفاعه ذراعا ونصفا ، ويكون مضببا بذهب خالص من داخله وخارجه ، وله أربع حلق ، في أربع زواياه ، ويكون على حافتيه كروبيان من ذهب ، يعنون صفة ملكين بأجنحة ، وهما متقابلان صنعه رجل اسمه بصليال . وأمره أن يعمل مائدة من خشب الشمشار ، طولها ذراعان ، وعرضها ذراع ونصف ، لها ضباب ذهب ، وإكليل ذهب بشفة مرتفعة ، بإكليل من ذهب ، وأربع حلق من نواحيها من ذهب; خرزه مثل الرمان من خشب ملبس ذهبا ، واعمل صحافا ومصافي وقصاعا على المائدة ، واصنع منارة من ذهب دلي فيها ست قصبات من ذهب ، من كل [ ص: 198 ] جانب ثلاث ، على كل قصبة ثلاث سرج ، وليكن في المنارة أربع قناديل ، ولتكن هي وجميع هذه الآنية من قنطار من ذهب ، صنع ذلك بصليال أيضا ، وهو الذي عمل المذبح أيضا ، ونصب هذه القبة أول يوم من سنتهم ، وهو أول يوم من الربيع ونصب تابوت الشهادة ، وهو - والله أعلم - المذكور في قوله تعالى : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين .
[ البقرة : 248 ] . وقد بسط هذا الفصل في كتابهم مطولا جدا ، وفيه شرائع لهم وأحكام ، وصفة قربانهم ، وكيفيته ، وفيه أن قبة الزمان كانت موجودة قبل عبادتهم العجل ، الذي هو متقدم على مجيئهم بيت المقدس ، وأنها كانت لهم كالكعبة يصلون فيها وإليها ، ويتقربون عندها ، وأن موسى ، عليه السلام ، كان إذا دخلها يقفون عندها ، وينزل عمود الغمام على بابها فيخرون عند ذلك سجدا لله ، عز وجل ، ويكلم الله موسى ، عليه السلام ، من ذلك العمود الغمام ، الذي هو نور ويخاطبه ، ويناجيه ، ويأمره ، وينهاه ، وهو واقف عند التابوت صامد إلى ما بين الكروبيين ، فإذا فصل الخطاب ، يخبر بني إسرائيل بما أوحاه الله ، عز وجل ، إليه من الأوامر والنواهي ، وإذا تحاكموا إليه في شيء ، ليس عنده من الله فيه شيء ، يجيء إلى قبة الزمان ، ويقف عند التابوت ، ويصمد لما بين ذينك الكروبيين ، فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة ، وقد كان هذا مشروعا لهم في زمانهم ، أعني استعمال الذهب والحرير المصبغ ، [ ص: 199 ] واللآليء في معبدهم ، وعند مصلاهم ، فأما في شريعتنا فلا ، بل قد نهينا عن زخرفة المساجد وتزيينها; لئلا تشغل المصلين ، كما قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، لما وسع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذي وكله على عمارته : ابن للناس ما يكنهم وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس . وقال ابن عباس : لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم .
وهذا من باب التشريف والتكريم والتنزيه ، فهذه الأمة غير مشابهة من كان قبلهم من الأمم; إذ جمع الله همهم في صلاتهم على التوجه إليه ، والإقبال عليه ، وصان أبصارهم وخواطرهم عن الاشتغال والتفكر في غير ما هم بصدده من العبادة العظيمة ، فلله الحمد والمنة .
وقد كانت قبة الزمان هذه مع بني إسرائيل في التيه ، يصلون إليها ، وهي قبلتهم وكعبتهم ، وإمامهم كليم الله موسى ، عليه السلام ، ومقدم القربان أخوه هارون ، عليه السلام .
فلما مات هارون ، ثم موسى ، عليهما السلام ، استمرت بنو هارون في الذي كان يليه أبوهم من أمر القربان ، وهو فيهم إلى الآن ، وقام بأعباء النبوة بعد موسى وتدبير الأمر بعده ، فتاه يوشع بن نون ، عليه السلام ، وهو الذي دخل بهم بيت المقدس; كما سيأتي بيانه .
[ ص: 200 ] والمقصود هنا أنه لما استقرت يده على البيت المقدس ، نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس ، فكانوا يصلون إليها ، فلما بادت صلوا إلى محلتها ، وهي الصخرة ، فلهذا كانت قبلة الأنبياء بعده إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد صلى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وكان يجعل الكعبة بين يديه ، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس ، فصلى إليها ستة عشر وقيل : سبعة عشر شهرا . ثم حولت القبلة إلى الكعبة ، وهي قبلة إبراهيم في شعبان سنة ثنتين ، في وقت صلاة العصر . وقيل : الظهر ، كما بسطنا ذلك في " التفسير " ، عند قوله تعالى : سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها إلى قوله : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام [ البقرة : 142 - 144 ] .
﴿ (71) قصة قارون مع موسى عليه السلام ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
قال الله تعالى : إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [ القصص : 76 - 83 ] . قال الأعمش : عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان قارون ابن عم [ ص: 202 ] موسى . وكذا قال إبراهيم النخعي ، وعبد الله بن الحارث بن نوفل ، وسماك بن حرب ، وقتادة ، ومالك بن دينار ، وابن جريج ، وزاد فقال : هو قارون بن يصهر بن قاهث ، وموسى بن عمران بن قاهث . قال ابن جريج : وهذا قول أكثر أهل العلم; أنه كان ابن عم موسى . ورد قول ابن إسحاق إنه كان عم موسى . قال قتادة : وكان يسمى المنور; لحسن صوته بالتوراة ولكن عدو الله نافق ، كما نافق السامري ، فأهلكه البغي لكثرة ماله . وقال شهر بن حوشب : زاد في ثيابه شبرا طولا; ترفعا على قومه . وقد ذكر الله تعالى كثرة كنوزه; حتى إن مفاتيحه كان يثقل حملها على الفئام من الرجال الشداد ، وقد قيل : إنها كانت من الجلود ، وإنها كانت تحمل على ستين بغلا . فالله أعلم . وقد وعظه النصحاء من قومه; قائلين : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين أي; لا تبطر بما أعطيت ، وتفخر على غيرك . وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة يقولون : لتكن همتك مصروفة لتحصيل ثواب الله في الدار الآخرة ، فإنه خير وأبقى ، ومع هذا ولا تنس نصيبك من الدنيا أي; وتناول منها بمالك ما أحل الله لك ، فتمتع لنفسك بالملاذ الطيبة الحلال ، وأحسن كما أحسن الله إليك أي; وأحسن إلى خلق الله كما أحسن الله خالقهم وبارئهم إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض أي; ولا تسئ إليهم ، ولا تفسد فيهم فتقابلهم ضد ما [ ص: 203 ] أمرت فيهم ، فيعاقبك ويسلبك ما وهبك ، إن الله لا يحب المفسدين فما كان جوابه قومه لهذه النصيحة الصحيحة الفصيحة ، إلا أن قال إنما أوتيته على علم عندي يعني : أنا لا أحتاج إلى استعمال ما ذكرتم ، ولا إلى ما إليه أشرتم; فإن الله إنما أعطاني هذا لعلمه أني أستحقه ، وأني أهل له ، ولولا أني حبيب إليه ، وحظي عنده ، لما أعطاني ما أعطاني . قال الله تعالى ردا عليه ما ذهب إليه : أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون أي; قد أهلكنا من الأمم الماضين بذنوبهم وخطاياهم من هو أشد من قارون قوة وأكثر أموالا وأولادا ، فلو كان ما قال صحيحا لم نعاقب أحدا ممن كان أكثر مالا منه ، ولم يكن ماله دليلا على محبتنا له ، واعتنائنا به ، كما قال تعالى : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا [ سبأ : 37 ] . وقال تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ المؤمنون : 55 ، 56 ] . وهذا الرد عليه يدل على صحة ما ذهبنا إليه من معنى قوله : إنما أوتيته على علم عندي .
وأما من زعم أن المراد من ذلك ، أنه كان يعرف صنعة الكيمياء ، أو أنه كان يحفظ الاسم الأعظم ، فاستعمله في جمع الأموال ، فليس بصحيح; لأن [ ص: 204 ] الكيمياء تخييل وصبغة لا تحيل الحقائق ، ولا تشابه صنعة الخالق ، والاسم الأعظم لا يصعد الدعاء به من كافر به ، وقارون كان كافرا في الباطن ، منافقا في الظاهر ، ثم لا يصح جوابه لهم بهذا على هذا التقدير ، ولا يبقى بين الكلامين تلازم ، وقد وضحنا هذا في كتابنا " التفسير " ولله الحمد .
قال الله تعالى : فخرج على قومه في زينته ذكر كثير من المفسرين أنه خرج في تجمل عظيم; من ملابس ، ومراكب ، وخدم ، وحشم ، فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا ، تمنوا أن لو كانوا مثله ، وغبطوه بما عليه وله ، فلما سمع مقالتهم العلماء ذوو الفهم الصحيح ، الزهاد الألباء ، قالوا لهم : ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا أي; ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى ، وأجل وأعلى ، قال الله تعالى : ولا يلقاها إلا الصابرون أي; وما يلقى هذه النصيحة ، وهذه المقالة ، وهذه الهمة السامية إلى الدار الآخرة العلية ، عند النظر إلى زهرة هذه الدنيا الدنية ، إلا من هدى الله قلبه ، وثبت فؤاده ، وأيد لبه ، وحقق مراده ، وما أحسن ما قال بعض السلف : إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ، والعقل الكامل عند حلول الشهوات .
قال الله تعالى : فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [ ص: 205 ] لما ذكر تعالى خروجه في زينته ، واختياله فيها ، وفخره على قومه بها ، قال : فخسفنا به وبداره الأرض .
كما روى البخاري من حديث الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : بينا رجل يجر إزاره ، إذ خسف به ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة . ثم رواه البخاري من حديث جرير بن زيد ، عن سالم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه .
وقد ذكر عن ابن عباس ، والسدي ، أن قارون أعطى امرأة بغيا مالا ، على أن تقول لموسى ، عليه السلام ، وهو في ملأ من الناس : إنك فعلت بي كذا وكذا . فيقال : إنها قالت له ذلك فأرعد من الفرق وصلى ركعتين ، ثم أقبل عليها فاستحلفها : من دلك على ذلك ، وما حملك عليه؟ فذكرت أن قارون هو الذي حملها على ذلك ، واستغفرت الله ، وتابت إليه ، فعند ذلك خر موسى لله ساجدا ، ودعا الله على قارون ، فأوحى الله إليه : إني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه ، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره ، فكان ذلك . فالله أعلم . وقد قيل : إن قارون لما خرج على قومه في زينته ، مر بجحفله ، وبغاله ، وملابسه ، على مجلس موسى ، عليه السلام ، وهو يذكر قومه بأيام الله ، فلما رآه الناس انصرفت وجوه كثير من الناس ينظرون إليه ، فدعاه [ ص: 206 ] موسى ، عليه السلام ، فقال له : ما حملك على هذا؟ فقال يا موسى ، أما لئن كنت فضلت علي بالنبوة ، فلقد فضلت عليك بالمال ، ولئن شئت لتخرجن فلتدعون علي ، ولأدعون عليك . فخرج ، وخرج قارون في قومه ، فقال له موسى تدعو أو أدعو؟ قال : أدعو أنا . فدعا قارون ، فلم يجب في موسى ، فقال موسى : أدعو؟ قال : نعم . فقال موسى : اللهم مر الأرض فلتطعني اليوم . فأوحى الله إليه : إني قد فعلت . فقال موسى : يا أرض خذيهم . فأخذتهم إلى أقدامهم ، ثم قال خذيهم . فأخذتهم إلى ركبهم ، ثم إلى مناكبهم ، ثم قال : أقبلي بكنوزهم وأموالهم . فأقبلت بها ، حتى نظروا إليها ثم أشار موسى بيده ، فقال : اذهبوا بني لاوي . فاستوت بهم الأرض . وقد روي عن قتادة أنه قال : يخسف بهم كل يوم قامة ، إلى يوم القيامة . وعن ابن عباس أنه قال : خسف بهم إلى الأرض السابعة . وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا إسرائيليات كثيرة ، أضربنا عنها صفحا وتركناها قصدا .
وقوله تعالى : فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين لم يكن له ناصر من نفسه ، ولا من غيره ، كما قال : فما له من قوة ولا ناصر [ الطارق : 10 ] . ولما حل به ما حل من الخسف ، وذهاب الأموال ، وخراب الدار ، وهلاك النفس والأهل والعقار ، ندم من كان تمنى مثل ما أوتي ، وشكروا الله تعالى الذي يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون ، ولهذا قالوا : لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون [ ص: 207 ] وقد تكلمنا على لفظ : " ويك " في " التفسير " ، وقد قال قتادة : ويكأن بمعنى ألم تر أن . وهذا قول حسن من حيث المعنى . والله أعلم . ثم أخبر تعالى تلك الدار الآخرة وهي دار القرار . وهي الدار التي يغبط من أعطيها ، ويعزى من حرمها ، إنما هي معدة للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا . فالعلو هو التكبر والفخر والأشر والبطر . والفساد هو عمل المعاصي اللازمة والمتعدية; من أخذ أموال الناس ، وإفساد معايشهم ، والإساءة إليهم ، وعدم النصح لهم ، ثم قال تعالى : والعاقبة للمتقين .
وقصة قارون هذه ، قد تكون قبل خروجهم من مصر; لقوله : فخسفنا به وبداره الأرض فإن الدار ظاهرة في البنيان ، وقد تكون بعد ذلك في التيه ، وتكون الدار عبارة عن المحلة التي تضرب فيها الخيام ، كما قال عنترة : يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحا دار عبلة واسلمي والله أعلم .
وقد ذكر الله تعالى مذمة قارون في غير ما آية من القرآن; قال الله تعالى : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب [ غافر : 23 ، 24 ] . وقال تعالى في سورة " العنكبوت " بعد ذكر عاد وثمود : وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ العنكبوت : 39 ، 40 ] . [ ص: 208 ] فالذي خسف به الأرض قارون ، كما تقدم ، والذي أغرق فرعون ، وهامان ، وجنودهما ، إنهم كانوا خاطئين .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا سعيد ، حدثنا كعب بن علقمة ، عن عيسى بن هلال الصدفي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه ذكر الصلاة يوما ، فقال : من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها ، لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف انفرد به أحمد ، رحمه الله .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 5:28 pm | |
| ﴿ (72) ذكر فضائل موسى عليه السلام وشمائله وصفاته ووفاته ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
قال الله تعالى : واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا [ مريم : 51 - 53 ] . وقال تعالى : قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي [ الأعراف : 144 ] . وتقدم في " الصحيحين " ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : لا تفضلوني على موسى ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش ، فلا أدري أصعق فأفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة الطور . وقدمنا أن هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الهضم والتواضع ، وإلا فهو صلوات الله وسلامه ، عليه خاتم الأنبياء ، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة قطعا جزما لا يحتمل النقيض . وقال تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط إلى أن قال : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [ النساء : 163 ، 164 ] . [ ص: 210 ] وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها [ الأحزاب : 69 ] .
قال الإمام أبو عبد الله البخاري : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا روح بن عبادة ، عن عوف ، عن الحسن ، ومحمد ، وخلاس ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن موسى كان رجلا حييا ستيرا ، لا يرى جلده شيء; استحياء منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده; إما برص وإما أدرة وإما آفة وإن الله ، عز وجل ، أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى ، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ، ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها ، وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر . حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا ، أحسن ما خلق الله وبرأه مما يقولون ، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه ، فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا ، أو خمسا قال : فذلك قوله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها وقد رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن شقيق ، وهمام بن منبه ، عن أبي هريرة به ، وهو في [ ص: 211 ] " الصحيحين " من حديث عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عنه به ورواه مسلم من حديث عبد الله بن شقيق العقيلي عنه .
قال بعض السلف : كان من وجاهته أنه شفع في أخيه عند الله ، وطلب منه أن يكون معه وزيرا ، فأجابه الله إلى سؤاله ، وأعطاه طلبته ، وجعله نبيا; كما قال : ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ثم قال البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، حدثنا الأعمش ، سألت أبا وائل ، قال : سمعت عبد الله قال : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما ، فقال رجل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله . فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ، ثم قال يرحم الله موسى ، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر وكذا رواه مسلم ، من غير وجه ، عن سليمان بن مهران الأعمش به . ،
وقال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن حجاج ، سمعت إسرائيل بن يونس ، عن الوليد بن أبي هاشم مولى لهمدان ، عن زيد بن أبي زائد ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : لا يبلغني أحد عن أحد شيئا ، [ ص: 212 ] فإني أحب أن أخرج إليكم; وأنا سليم الصدر قال : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فقسمه ، قال : فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه : والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ، ولا الدار الآخرة ، فثبت حتى سمعت ما قالا . ثم أتيت رسول الله فقلت : يا رسول الله إنك قلت لنا : لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا ، وإني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا ، فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشق عليه ، ثم قال : دعنا منك ، فقد أوذي موسى أكثر من ذلك فصبر وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، من حديث إسرائيل ، عن الوليد بن أبي هاشم به ، وفي رواية للترمذي ، ولأبي داود ، من طريق الحسين بن محمد ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن الوليد به . وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه .
وقد ثبت في " الصحيح " في أحاديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بموسى ، وهو قائم يصلي في قبره . ورواه مسلم عن أنس .
وفي " الصحيحين " من رواية قتادة ، عن أنس عن مالك بن صعصعة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه مر ليلة أسري به ، بموسى في السماء السادسة ، فقال له جبريل : هذا موسى فسلم عليه . قال : [ ص: 213 ] فسلمت عليه . فقال : مرحبا بالنبي الصالح ، والأخ الصالح . فلما تجاوزت بكى; قيل له : ما يبكيك؟ قال : أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي وذكر إبراهيم في السماء السابعة . وهذا هو المحفوظ ، وما وقع في حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس ، من أن إبراهيم في السادسة ، وموسى في السابعة ، بتفضيل كلام الله فقد ذكر غير واحد من الحفاظ ، أن الذي عليه الجادة ، أن موسى في السادسة ، وإبراهيم في السابعة ، وأنه مسند ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم . واتفقت الروايات كلها على أن الله تعالى لما فرض على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته ، خمسين صلاة في اليوم والليلة ، فمر بموسى ، قال : " ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فإني قد عالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة ، وإن أمتك أضعف أسماعا ، وأبصارا ، وأفئدة " فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله ، عز وجل ، ويخفف عنه في كل مرة ، حتى صارت خمس صلوات في اليوم والليلة . وقال الله تعالى : هي خمس ، وهي خمسون أي; بالمضاعفة فجزى الله عنا محمدا صلى الله عليه وسلم خيرا ، وجزى الله عنا موسى ، عليه السلام ، خيرا .
وقال البخاري : حدثنا مسدد ، حدثنا حصين بن نمير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ، فقال : عرضت علي الأمم ، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، [ ص: 214 ] فقيل : هذا موسى في قومه هكذا روى البخاري هذا الحديث هاهنا مختصرا .
وقد رواه الإمام أحمد مطولا فقال : حدثنا سريج ، حدثنا هشيم ، حدثنا حصين بن عبد الرحمن ، قال : كنت عند سعيد بن جبير ، قال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت : أنا . ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ولكن لدغت . قال : وكيف فعلت؟ قلت : استرقيت . قال : وما حملك على ذلك؟ قال : قلت حديث حدثناه الشعبي ، عن بريدة الأسلمي ، أنه قال : لا رقية إلا من عين ، أو حمة ، فقال سعيد - يعني ابن جبير - : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع . ثم قال : حدثنا ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عرضت علي الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهط ، والنبي معه الرجل ، والرجلين ، والنبي وليس معه أحد; إذ رفع لي سواد عظيم فقلت : هذه أمتي . فقيل : هذا موسى وقومه ، ولكن انظر إلى الأفق . فإذا سواد عظيم ، ثم قيل : انظر إلى هذا الجانب . فإذا سواد عظيم فقيل : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا ، يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فخاض القوم في ذلك فقالوا : من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب؟ فقال بعضهم : لعلهم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : لعلهم الذين ولدوا في الإسلام ، ولم يشركوا بالله شيئا قط . وذكروا أشياء ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ما هذا الذي كنتم تخوضون فيه؟ فأخبروه بمقالتهم ، فقال : هم الذين لا يكتوون ، ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ، فقام عكاشة بن محصن الأسدي ، فقال : أنا منهم يا رسول الله؟ قال : أنت منهم ، ثم قام آخر فقال : أنا منهم يا رسول الله؟ فقال : سبقك بها عكاشة . وهذا الحديث له طرق كثيرة جدا ، وهو في الصحاح والحسان ، وغيرها ، وسنوردها إن شاء الله تعالى في باب صفة الجنة ، عند ذكر أحوال القيامة وأهوالها . وقد ذكر الله تعالى موسى ، عليه السلام ، في القرآن كثيرا ، وأثنى عليه ، وأورد قصته في كتابه العزيز مرارا ، وكررها كثيرا ، مطولة ، ومبسوطة ، ومختصرة ، وأثنى عليه بليغا . وكثيرا ما يقرنه الله ، ويذكره ، ويذكر كتابه مع محمد صلى الله عليه وسلم ، وكتابه كما قال في سورة " البقرة " : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون [ البقرة : 110 ] . وقال تعالى : الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام [ آل عمران : 1 - 4 ] . وقال تعالى في سورة " الأنعام " : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون [ الأنعام : 91 ، 92 ] . [ ص: 215 ] فأثنى تعالى على التوراة ، ثم مدح القرآن العظيم مدحا عظيما ، وقال تعالى في آخرها : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [ الأنعام : 154 ، 155 ] . وقال تعالى في سورة " المائدة " : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] . إلى أن قال : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه [ المائدة : 47 ، 48 ] . الآية . فجعل القرآن حاكما على سائر الكتب غيره ، وجعله مصدقا لها ، ومبينا ما وقع فيها من التحريف والتبديل ، فإن أهل الكتاب استحفظوا على ما بأيديهم من الكتب ، فلم يقدروا على حفظها ، ولا على ضبطها وصونها ، فلهذا دخلها ما دخلها من تغييرهم وتبديلهم; لسوء فهومهم ، وقصورهم في علومهم ، ورداءة قصودهم ، وخيانتهم لمعبودهم ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، ولهذا يوجد في كتبهم من الخطأ البين على الله وعلى رسله ، ما لا يحد ولا يوصف ، وما لا [ ص: 217 ] يوجد مثله ولا يعرف . وقال تعالى في سورة " الأنبياء " : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون [ الأنبياء : 48 - 50 ] . وقال الله تعالى في سورة " القصص " : فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين [ القصص : 48 ، 49 ] . فأثنى الله على الكتابين ، وعلى الرسولين ، عليهما السلام ، وقالت الجن لقومهم : إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه [ الأحقاف : 30 ] . وقال ورقة بن نوفل لما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خبر ما رأى من أول الوحي ، وتلا عليه : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم [ العلق : 1 - 5 ] . قال سبوح سبوح ، هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران .
وبالجملة فشريعة موسى ، عليه السلام ، كانت عظيمة ، وأمته كانت أمة كثيرة ، ووجد فيها أنبياء ، وعلماء ، وعباد ، وزهاد ، وألباء ، وملوك ، وأمراء ، وسادات ، وكبراء ، لكنهم كانوا فبادوا وتبدلوا ، كما بدلت شريعتهم ، ومسخوا قردة وخنازير ، ثم نسخت بعد كل حساب ملتهم ، وجرت عليهم خطوب وأمور يطول ذكرها ، ولكن سنورد ما فيه مقنع لمن أراد أن يبلغه خبرها ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة وعليه التكلان .
| |
|
| |
Admin Admin
المساهمات : 1696 تاريخ التسجيل : 26/04/2017 العمر : 37 الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية
| موضوع: تابع قصة موسى عليه السلام الجمعة ديسمبر 23, 2022 5:30 pm | |
| ﴿ (73) ذكر حج موسى عليه السلام ، إلى البيت العتيق وصفته ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مر بوادي الأزرق ، فقال : أي واد هذا؟ قالوا : وادي الأزرق . قال : كأني أنظر إلى موسى ، وهو هابط من الثنية ، وله جؤار إلى الله ، عز وجل ، بالتلبية حتى أتى على ثنية هرشاء فقال : أي ثنية هذه؟ قالوا : هذه ثنية هرشاء . قال : كأني أنظر إلى يونس بن متى ، على ناقة حمراء ، عليه جبة من صوف ، خطام ناقته خلبة ، - قال هشيم : يعني ليفا - وهو يلبي وأخرجه مسلم من حديث داود بن أبي هند به . وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعا : إن موسى حج على ثور أحمر وهذا غريب جدا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن ابن عون ، عن مجاهد ، قال : كنا عند ابن عباس ، فذكروا الدجال ، فقال : إنه مكتوب بين [ ص: 219 ] عينيه : ( ك ف ر ) . قال : ما تقولون؟ قال : يقولون مكتوب بين عينيه ( ك ف ر ) فقال ابن عباس : لم أسمعه قال ذلك ولكن قال : أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم ، وأما موسى فرجل آدم جعد ، على جمل أحمر ، مخطوم بخلبة كأني أنظر إليه وقد انحدر من الوادي يلبي قال هشيم : الخلبة الليف .
ثم رواه الإمام أحمد عن أسود ، عن إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت عيسى ابن مريم ، وموسى ، وإبراهيم; فأما عيسى ، فأبيض ، جعد ، عريض الصدر ، وأما موسى ، فآدم ، جسيم ، قالوا : فإبراهيم؟ قال : انظروا إلى صاحبكم وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا شيبان ، قال : حدث قتادة ، عن أبي العالية ، حدثنا ابن عم نبيكم ابن عباس ، قال : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران ، رجلا طوالا ، جعدا ، كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى ابن مريم ، مربوع الخلق ، إلى الحمرة والبياض ، سبط الرأس وأخرجاه من حديث قتادة به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، قال الزهري : وأخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أسري به : لقيت موسى فنعته ، فقال رجل : قال : حسبته قال : [ ص: 220 ] مضطرب رجل الرأس ، كأنه من رجال شنوءة . ولقيت عيسى فنعته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ربعة أحمر ، كأنما خرج من ديماس . يعني حماما ، قال : ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به . الحديث . وقد تقدم غالب هذه الأحاديث في ترجمة الخليل ، صلوات الله عليه وسلامه . ﴿ (74) وفاة موسى ، عليه السلام ﴾ ۞۞۞۞۞۞۞
قال البخاري في " صحيحه " : ( وفاة موسى ، عليه السلام ) : حدثنا يحيى بن موسى ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : أرسل ملك الموت إلى موسى ، عليه السلام ، فلما جاءه صكه ، فرجع إلى ربه ، عز وجل ، فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، قال : ارجع إليه ، فقل له يضع يده على متن ثور ، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة . قال : أي رب ثم ماذا؟ قال : ثم الموت ، قال : فالآن . قال : فسأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة ، رمية بحجر ، قال أبو هريرة : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " : فلو كنت ثم لأريتكم قبره ، إلى جانب الطريق ، عند الكثيب الأحمر .
قال : وأنبأنا معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه . وقد روى مسلم الطريق الأول من حديث عبد الرزاق به . ورواه الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، عن أبي هريرة مرفوعا ، وسيأتي .
[ ص: 222 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو يونس ، يعني سليم بن جبير ، عن أبي هريرة - قال الإمام أحمد : لم يرفعه - قال : جاء ملك الموت إلى موسى ، عليه السلام ، فقال : أجب ربك . فلطم موسى عين ملك الموت ، ففقأها ، فرجع الملك إلى الله ، فقال : إنك بعثتني إلى عبد لك لا يريد الموت . قال : وقد فقأ عيني ، قال : فرد الله عينه ، وقال : ارجع إلى عبدي ، فقل له : الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة ، فضع يدك على متن ثور ، فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بها سنة ، قال : ثم مه؟ قال : ثم الموت ، قال : فالآن يا رب ، من قريب . تفرد به أحمد ، وهو موقوف بهذا اللفظ .
وقد رواه ابن حبان في " صحيحه " ، من طريق معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال معمر : وأخبرني من سمع الحسن ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره ، ثم استشكله ابن حبان ، وأجاب عنه بما حاصله : أن ملك الموت ، لما قال له هذا لم يعرفه; لمجيئه له على غير صورة يعرفها موسى ، عليه السلام ، كما جاء جبريل ، عليه السلام ، في صورة أعرابي ، وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولو في صورة شباب ، فلم يعرفهم إبراهيم ولا لوط أولا ، وكذلك موسى لعله لم يعرفه لذلك ولطمه ففقأ عينه; لأنه دخل داره بغير إذنه ، وهذا موافق لشريعتنا في جواز فقء عين من [ ص: 223 ] نظر إليك في دارك بغير إذن . ثم أورد الحديث من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه ، قال له : أجب ربك . فلطم موسى عين ملك الموت ، ففقأ عينه وذكر تمام الحديث - كما أشار إليه البخاري - ثم تأوله على أنه لما رفع يده ليلطمه قال له : أجب ربك . وهذا التأويل لا يتمشى على ما ورد به اللفظ ، من تعقيب قوله : أجب ربك . بلطمه ، ولو استمر على الجواب الأول ، لتمشى له . وكأنه لم يعرفه في تلك الصورة ، ولم يحمل قوله هذا على أنه مطابق; إذا لم يتحقق في الساعة الراهنة أنه ملك كريم; لأنه كان يرجو أمورا كثيرة كان يحب وقوعها في حياته; من خروجه من التيه ، ودخولهم الأرض المقدسة ، وكان قد سبق في قدر الله ، أنه ، عليه السلام ، يموت في التيه ، بعد هارون أخيه ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى ، وقد زعم بعضهم أن موسى ، عليه السلام ، هو الذي خرج بهم من التيه ، ودخل بهم الأرض المقدسة . وهذا خلاف ما عليه أهل الكتاب ، وجمهور المسلمين . ومما يدل على ذلك ، قوله لما اختار الموت : رب ، أدنني إلى الأرض المقدسة ، رمية بحجر . ولو كان قد دخلها ، لم يسأل ذلك ، ولكن لما كان مع قومه بالتيه ، وحانت وفاته ، عليه السلام ، أحب أن يتقرب إلى الأرض التي هاجر إليها ، وحث قومه عليها ، ولكن حال بينهم وبينها القدر ، رمية بحجر ، ولهذا قال [ ص: 224 ] سيد البشر ، ورسول الله إلى أهل الوبر والمدر : فلو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، حدثنا ثابت ، وسليمان التيمي ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : لما أسري بي ، مررت بموسى ، وهو قائم يصلي في قبره ، عند الكثيب الأحمر . ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به .
وقال السدي ، عن أبي مالك ، وأبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ، قالوا : ثم إن الله تعالى أوحى إلى موسى : إني متوف هارون ، فائت به جبل كذا وكذا . فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل ، فإذا هم بشجرة لم تر شجرة مثلها ، وإذا هم ببيت مبني ، وإذا هم بسرير عليه فرش ، وإذا فيه ريح طيبة ، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه ، أعجبه ، قال : يا موسى ، إني أحب أن أنام على هذا السرير . قال له موسى : فنم عليه ، قال : إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي . قال له : لا ترهب ، أنا أكفيك رب هذا البيت ، فنم . قال : يا موسى ، بل نم معي فإن جاء رب هذا البيت ، غضب علي وعليك جميعا فلما ناما ، أخذ هارون الموت ، فلما وجد حسه ، قال : يا موسى ، خدعتني . فلما قبض ، رفع ذلك البيت ، وذهبت تلك الشجرة ، ورفع السرير [ ص: 225 ] به إلى السماء ، فلما رجع موسى إلى قومه ، وليس معه هارون قالوا : فإن موسى قتل هارون ، وحسده حب بني إسرائيل له . وكان هارون أكف عنهم وألين لهم من موسى ، وكان في موسى بعض الغلظة عليهم ، فلما بلغه ذلك قال لهم : ويحكم ، كان أخي أفتروني أقتله؟ فلما أكثروا عليه ، قام فصلى ركعتين ، ثم دعا الله فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض ، ثم إن موسى ، عليه السلام ، بينما هو يمشي ويوشع فتاه ، إذ أقبلت ريح سوداء ، فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة ، فالتزم موسى وقال : تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبي الله ، فاستل موسى ، عليه السلام من تحت القميص ، وترك القميص في يدي يوشع ، فلما جاء يوشع بالقميص أخذته بنو إسرائيل وقالوا : قتلت نبي الله؟ فقال : لا والله ما قتلته ولكنه استل مني . فلم يصدقوه وأرادوا قتله . قال : فإذا لم تصدقوني فأخروني ثلاثة أيام . فدعا الله ، فأتى كل رجل ممن كان يحرسه في المنام فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى ، وإنا قد رفعناه إلينا ، فتركوه ، ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى ، إلا مات ، ولم يشهد الفتح . وفي بعض هذا السياق نكارة وغرابة . والله أعلم .
وقد قدمنا أنه لم يخرج أحد من التيه ممن كان مع موسى ، سوى يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا ، وهو زوج مريم أخت موسى وهارون ، وهما الرجلان المذكوران فيما تقدم اللذان أشارا على ملأ بني إسرائيل بالدخول عليهم ، وذكر وهب بن منبه أن موسى ، عليه السلام ، مر بملأ من الملائكة يحفرون قبرا ، فلم ير أحسن منه ، ولا أنضر ولا أبهج ، فقال : يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ [ ص: 226 ] فقالوا : لعبد من عباد الله كريم ، فإن كنت تحب أن تكون هذا العبد ، فادخل هذا القبر ، وتمدد فيه ، وتوجه إلى ربك ، وتنفس أسهل تنفس . ففعل ذلك فمات ، صلوات الله وسلامه عليه فصلت عليه الملائكة ، ودفنوه . وذكر أهل الكتاب وغيرهم أنه مات وعمره مائة وعشرون سنة .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أمية بن خالد ، ويونس ، قالا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال يونس : رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان ملك الموت يأتي الناس عيانا قال : فأتى موسى ، عليه السلام ، فلطمه ، ففقأ عينه ، فأتى ربه ، فقال : يا رب عبدك موسى فقأ عيني ، ولولا كرامته عليك لعنفت به " وقال يونس : " لشققت عليه " . " قال له اذهب إلى عبدي ، فقل له : فليضع يده على جلد - أو مسك - ثور ، فله بكل شعرة وارت يده سنة . فأتاه فقال له ، فقال : ما بعد هذا؟ قال : الموت ، قال : فالآن " . قال : فشمه شمة ، فقبض روحه قال يونس : " فرد الله عليه عينه ، وكان يأتي الناس خفية " وكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن مصعب بن المقدام ، عن حماد بن سلمة به ، فرفعه أيضا والله تعالى أعلم .
| |
|
| |
| قصص الأنبياء قصة موسى عليه السلام | |
|