زبيدة بن حميد:
وأما زبيدة بن حميد الصيرفي «1» ، فإنه استسلف من بقال، كان على باب داره، درهمين وقيراطا، فلما قضاه بعد ستة أشهر، قضاه درهمين وثلاث حبات شعير. فاغتاظ البقال، وقال: «سبحان الله! أنت رب مائة ألف دينار؛ وأنا بقال لا أملك مائة فلس، وإنما أعيش بكدي وباستفضال»
الحبة والحبتين. صاح على بابك جمال، وحمال، ولم يحضرك، وغاب وكيلك، فنقدت عنك درهمين، وأربع شعيرات، فقضيتني بعد سنة أشهر درهمين، وثلاث شعيرات» ! فقال زبيدة: «يا مجنون أسلفتني في الصيف فقضيتك في الشتاء، وثلاث شعيرات شتوية ندية، أرزن «3» من أربع شعيرات يابسة صيفية، وما أشك أن معك فضلا» «4» .
وحدثني أبو الإصبغ بن ربعي «5» قال: «دخلت عليه بعد أن ضرب غلمانه بيوم، فقلت له: ما هذا الضرب المبرح، وهذا الخلق السيء؟
هؤلاء غلمان، ولهم حرمة وكفاية وتربية، وإنما هم ولد. هؤلاء كانوا الى غير هذا أحوج. قال: «إنك لست تدري أنهم أكلوا كل جوارشن «6» كان عندي» .
قال أبو الإصبغ: فخرجت إلى رئيس غلمانه فقلت: «ويلك! ما لك وللجوارشن؟ وما رغبتك فيه» قال: «جعلت فداك! ما أقدر أن أكلمك من الجوع إلا وأنا متكيء. الجوارشن ما أصنع به؟ هو نفسه ليس يشبع، ولا يحتاج الى الجوارشن، ونحن الذين إنما نسمع بالشبع سماعا من أفواه الناس، وما نصنع بالجوارشن؟.
واشتد على غلمانه في تصفية الماء، وفي تبريده وتزميله «1» ، لأصحابه وزواره. فقال له غازي أبو مجاهد: «جعلت فداك! مر بتزميل الخبز وبتكبيره، فإن الطعام قبل الشراب» .
وقال مرة: «يا غلام هات خوان النرد» ، وهو يريد تخت النرد.
فقال له غازي: «نحن الى خوان الخبز أحوج» .
وسكر زبيدة ليلة، فكسا صديقا له قميصا؛ فلما صار القميص على النديم خاف البدوات «2» . وعلم أن ذلك هفوة من هفوات السكر.
فمضى من ساعته الى منزله، فجعله برنكانا «3» لامرأته؛ فلما أصبح، سأل عن القميص، وتفقده. فقيل له: «إنك قد كسوته فلانا» فبعث إليه، ثم أقبل عليه، فقال: «ما علمت أن هبة السكران، وشراءه وبيعه، وصدقته، وطلاقه لا يجوز؟ وبعد فإني أكره ألا يكون لي حمد، وأن يوجه الناس هذا مني على السكر، فرده علي حتى أهبه لك صاحيا عن طيب نفس، فإني أكره أن يذهب شيء من مالي باطلا» . فلما رآه صمم أقبل عليه فقال: «يا هناه «4» ! إن الناس يمزحون، ويلعبون، ولا يؤاخذون بشيء من ذلك، فرد القميص عافاك الله» . قال له الرجل:
«إني والله قد خفت هذا بعينه، فلم أضع جنبي الى الأرض حتى جيبته لامرأتي. وقد زدت في الكمين وحذفت المقاديم «1» . فإن أردت بعد هذا كله أن تأخذه فخذه» . فقال: «نعم آخذه، لأنه يصلح لأمرأتي كما يصلح لأمرأتك» . قال: «فإنه عند الصباغ» . قال: «فهاته» . قال:
«ليس أنا أسلمته إليه» . فلما علم أنه قد وقع، قال: «بأبي أنت وأمي، رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: جمع الشر كله في بيت، وأغلق عليه، فكان مفتاحه السكر» .