التوبة والموعد الموهوم
كثير من الشباب يقتنع من خطأ طريقه ، ويتمنى التغيير ، لكنه ينتظر المناسبة ، ألا وهي أن يموت قريب له ، أو أن يصاب هو بحادث فيتعظ ، ويهزه الموقف فيدعوه للتوبة . ولكن ماذا لوكان هو الميت فاتعظ به غيره ؟ وكان هذا الحادث الذي ينتظره فعلاً لكن صارت فيه نهايته ؟ ليس أخي الشاب للإنسان في الدنيا إلا فرصة واحدة ، فالأمر لا يحتمل المخاطرة .
فهل قررنا التوبة اللحظة ، وسلوك طريق الاستقامة الآن ؟
إن القرار قد يكون صعباً على النفس وثقيلاً ، ويتطلب تبعات وتضحيات ، لكن العقبى حميدة ، والثمرة يانعة بمشيئة الله
توبة قاتل المئة
قِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ  أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ لَا فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ قَالَ قَتَادَةُ فَقَالَ الْحَسَنُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ 
الشروح
- ص 236 - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (  إِنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ نَفْسًا ، ثُمَّ قَتَلَ تَمَامَ الْمِائَةِ ، ثُمَّ أَفْتَاهُ الْعَالِمُ بِأَنَّ لَهُ تَوْبَةٌ  ) هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى صِحَّةِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ عَمْدًا ، وَلَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ ٠ وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ خِلَافِ هَذَا ، فَمُرَادُ قَائِلِهِ الزَّجْرُ عَنْ سَبَبِ التَّوْبَةِ ، لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ تَوْبَتِهِ ٠ وَهَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِيهِ ، وَهُوَ إِنْ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلنَا ، وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ خِلَافٌ فَلَيْسَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ ، وَإِنَّمَا مَوْضِعُهُ إِذَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِمُوَافَقَتِهِ وَتَقْرِيرِهِ ، فَإِنْ وَرَدَ كَانَ شَرْعًا لَنَا بِلَا شَكٍّ ، وَهَذَا قَدْ وَرَدَ شَرْعُنَا بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى :  وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ  إِلَى قَوْلِهِ :  إِلَّا مَنْ تَابَ  الْآيَةَ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى :  وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا  فَالصَّوَابُ فِي مَعْنَاهَا : أَنَّ جَزَاءَهُ جَهَنَّمُ ، وَقَدْ يُجَازَى بِهِ ، وَقَدْ يُجَازَى بِغَيْرِهِ وَقَدْ لَا يُجَازَى بَلْ يُعْفَى عَنْهُ ، فَإِنْ قَتَلَ عَمْدًا مُسْتَحِلًّا لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا تَأْوِيلٍ ، فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ ، يَخْلُدُ بِهِ فِي جَهَنَّمَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ بَلْ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ عَاصٍ مُرْتَكِبُ كَبِيرَةٍ ، جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ، لَكِنْ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ مَنْ مَاتَ مُوَحِّدًا - فى النار - فِيهَا ، فَلَا يَخْلُدُ هَذَا ، وَلَكِنْ قَدْ يُعْفَى عَنْهُ ، فَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَصْلًا ، وَقَدْ لَا يُعْفَى عَنْهُ ، بَلْ يُعَذَّبُ كَسَائِرِ الْعُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ ، ثُمَّ يَخْرُجُ مَعَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ ، وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ ، فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجَازَى بِعُقُوبَةٍ مَخْصُوصَةٍ أَنْ يَتَحَتَّمَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ يُخَلَّدُ فِي جَهَنَّمِ ، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّهَا جَزَاؤُهُ أَيْ : يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجَازَى بِذَلِكَ ، وَقِيلَ : إِنَّ الْمُرَادَ مَنْ قَتَلَ مُسْتَحِلًّا ، قِيلَ : وَرَدَتِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْخُلُودِ طُولُ الْمُدَّةِ لَا الدَّوَامُ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهَا هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جَازَاهُ ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ أَوْ فَاسِدَةٌ لِمُخَالَفَتِهَا حَقِيقَةَ لَفْظِ الْآيَةِ ، وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ فَهُوَ شَائِعٌ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا عُفِي عَنْهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهَا كَانَتْ جَزَاءً ، وَهِيَ جَزَاءٌ لَهُ ، لَكِنْ تَرَكَ اللَّهُ مُجَازَاتَهُ عَفْوًا عَنْهُ وَكَرَمًا ، فَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ ٠ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ٠
- ص 237 - قَوْلُهُ : (  انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ فِيهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضكِ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ  ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : فِي هَذَا اسْتِحْبَابُ مُفَارَقَةِ التَّائِبِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي أَصَابَ بِهَا الذُّنُوبَ ، وَالْأَخْدَانَ الْمُسَاعِدِينَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَمُقَاطَعَتِهِمْ مَا دَامُوا عَلَى حَالِهِمْ ، وَأَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِمْ صُحْبَةَ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُتَعَبِّدِينَ الْوَرِعِينَ وَمَنْ يَقْتَدِي بِهِمْ ، وَيَنْتَفِعُ بِصُحْبَتِهِمْ ، وَتَتَأَكَّدُ بِذَلِكَ تَوْبَتُهُ ٠
قَوْلُهُ : ( فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ ) هُوَ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ أَيْ : بَلَغَ نِصْفَهَا ٠
قَوْلُهُ : ( نَأَى بِصَدْرِهِ ) أَيْ نَهَضَ ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الْأَلِفِ عَلَى الْهَمْزَةِ وَعَكْسُهُ ، وَسَبَقَ فِي حَدِيثِ أَصْحَابِ الْغَارِ ٠ وَأَمَّا قِيَاسُ الْمَلَائِكَةِ مَا بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ ، وَحُكْمُ الْمَلَكِ الَّذِي جَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ ، فَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ عِنْدَ اشْتِبَاهِ أَمْرِهِ عَلَيْهِمْ ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِيهِ أَنْ يُحَكِّمُوا رَجُلًا مِمَّنْ يَمُرُّ بِهِمْ ، فَمَرَّ الْمَلَكُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ ، فَحَكَمَ بِذَلِكَ ٠