﴿ (33) قصة ذي الكفل الذي زعم قوم أنه ابن أيوب ﴾
۞۞۞۞۞۞۞
قال الله تعالى بعد قصة أيوب في سورة الأنبياء «وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ» . وقال تعالى بعد قصة أيوب أيضاً في سورة ص «وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَار، وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنْ الأَخْيَارِِ» .
فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقروناً مع هؤلاء السادة الأنبياء أنه نبي عليه من ربه الصلاة والسلام وهذا هو المشهور.
وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبياً وإنما كان رجلاً صالحاً وحكماً مقسطاً عادلاً. وتوقف ابن جرير في ذلك فالله أعلم.
وروى ابن جرير وأبو نجيح عن مجاهد أنه لم يكن نبياً، وإنما كان رجلاً صالحاً.
وكان قد تكفل لبني قومه أن يكفيهم أمرهم، ويقضي بينهم بالعدل فيفعل فسمي ذا الكفل.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند عن مجاهد أنه قال: لما كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس فقال: من يتقبل لي بثلاث استخلفه: يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب.قال: فقام رجل تزدريه العين، فقال: أنا، فقال: أنت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟ قال: نعم. قال: فردّهم ذلك اليوم، وقال مثلها اليوم الآخر، فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال أنا، فاستخلفه.قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان، فأعياهم ذلك. فقال دعوني وإياه فاتاه في صورة شيخ كبير فقير، وأتاه حين اخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام الليل والنهار، إلا تلك النّومة فدقّ الباب. فقال: من هذا؟ قال: شيخ كبير مظلوم. قال: فقام ففتح الباب فجعل يقص عليه، فقال إنَّ بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح، وذهبت القائلة. وقال: إذا رحت فإنني آخذ لك بحقّك.
فانطلق وراح. فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره، فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه. فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فاتني؟ فقال: إنهم اخبث قوم إذا عرفوا انك قاعد، قالوا: نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني. قال: فانطلق فإذا رحت فأتني.قال: ففاتته القائلة، فراح فجعل ينتظر فلا يراه وشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعنَّ أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق عليّ النوم. فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل وراءك وراءك، فقال: قد أتيته أمس، فذكرت له أمري، فقال: لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحداً يقربه، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسّور منها فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل، قال فاستيقظ الرجل، فقال: يا فلان ألم آمرك؟ قال: أمّا من قبلي واللهِ فلم تؤت، فانظر من أين أتيت؟قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه؟ وإذا الرجل معه في البيت، فعرفه فقال: أَعَدُوَّ اللهِ؟ قال: نعم أعييتني في كل شيء ففعلت كل ما ترى لأغضبك.
فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به! **
وقد روى ابن أبي حاتم أيضاً عن ابن عبَّاس قريباً من هذا السياق وهكذا روى عن عبد الله بن الحارث ومُحَمْد بن قيس وابن حجيرة الأكبر، وغيرهم من السلف نحو هذا.
وقال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنا أبي، حَدَّثَنا أبو الجماهر، أنبأنا سعيد بن بشير حَدَّثَنا قتادة عن كنانة بن الأخنس قال سمعت الأشعري - يعني أبا موسى رضي الله عنه - وهو على هذا المنبر يقول: ما كان ذو الكفل نبيّاً، ولكن كان رجلاً صالح يصلّي كل يوم مائة صلاة، فتكفّل له ذو الكفل من بعده يصلّي كل يوم مائة صلاة، فسمى ذا الكفل .
ورواه ابن جرير من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال أبو موسى الأشعري فذكره منقطعاً.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حَدَّثَنا أسباط بن محمد، حَدَّثَنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعد مولى طلحة، عن ابن عمر قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع مرار - ، لم أحدث به ولكني قد سمعته أكثر من ذلك. قال « كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورّع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته، أرعدت وبكت، فقال لها: ما يبكيك أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حملتني إليه الحاجة، قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط. ثم نزل فقال: اذهبي بالدنانير لك. ثم قال: والله لا يعصي الله الكفل أبداً، فمات من ليلته فأصبح مكتوباً على بابه قد غفر الله للكفل» !
ورواه الترمذي من حديث الأعمش به وقال حسن، وذكر أن بعضهم رواه فوقفه على ابن عمر.
فهو حديث غريب جداً وفي إسناده نظر فان سعداً هذا قال أبو حاتم: لا أعرفه إلا بحديث واحد. ووثقه ابن حبان، ولم يرو عنه سوى عبد الله بن عبد الله الرازي هذا. فالله أعلم.
وان كان محفوظا فليس هو ذا الكفل وإنما لفظ الحديث الكفل من غير إضافة فهو رجل آخر غير المذكور في القرآن. فالله تعالى أعلم.
34 باب ذكر أُمَم أُهلكوا بعَامّة
○○○○
وذلك قبل نزول التوراة بدليل قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى» الآية.
كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من حديث عوف الأعرابي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: ما أهلك الله قوماً بعذاب من السماء أو من الأرض بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخوا قردة ألم تر أن الله تعالى يقول: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى» .
ورفعه البزار في رواية له. والأشبه والله أعلم وقفه، فدل على أن كل أمة أهلكت بعامة قبل موسى عليه السلام.
﴿ (35) أصحاب الرَّسِّ ﴾
۞۞۞۞۞۞۞
قال الله تعالى في سورة الفرقان «وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً، وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً» وقال الله تعالى في صورة ق: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ، وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ، وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ» .
وهذا السياق والذي قبله يدل على أنهم أهلكوا ودمروا، وتبرّوا وهو الهلاك.
وهذا يرد اختيار ابن جرير من أنهم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج، لأنّ أولئك عند بن إسحاق وجماعة كانوا بعد المسيح عليه السلام وفيه نظر أيضاً.
وروى ابن جرير قال: قال ابن عبَّاس: أصحاب الرس أهل قرية من قرى ثمود.
وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في أول تاريخه عند ذكر بناء دمشق عن تاريخ أبي القاسم عبد الله بن عبد الله بن جرداد وغيره أن أصحاب الرس كانوا بِحَضَوَّر، فبعث الله إليهم نبيّاً يقال له: حنظلة بن صفوان، فكذبوه وقتلوه، فسار عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح بولده من الرس، فنزل الأحقاف، وأهلك الله أصحاب الرَّس، وانتشروا في اليمن كلها، وفشوا مع ذلك في الأرض كلها، حتى نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح دمشق، وبنى مدينتها، وسماها جيرون، وهي ارم ذات العماد، وليس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منها بدمشق، فبعث الله هود بن عبد الله بن رباح بن خالد بن الحلود بن عاد إلى عاد، يعني أولاد عاد بالأحقاف، فكذبوه فأهلكم الله عز وجل.
فهذا يقتضي أن أصحاب الرس قبل عاد بدهور متطاولة فالله أعلم.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي عاصم عن أبيه عن شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عبَّاس قال: الرس بئر بأذربيجان. وقال الثوري عن أبي بكر عن عكرمة قال: الرس بئر رسّوا فيها نبيَّهم، أي دفنوه فيها.قال ابن جُرَيْج قال عكرمة: أصحاب الرَّسِّ بفلج، وهم أصحاب يس. وقال قتادة: فلج من قرى اليمامة.
قلت: فإن كانوا أصحاب ياسين كما زعمه عكرمة فقد أهلكوا بعامة، قال الله تعالى في قصتهم: «إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ» وستأتي قصتهم بعد هؤلاء.
وإن كانوا غيرهم وهو الظاهر فقد اهلكوا أيضاً وتبرّوا. وعلى كل تقدير فينافي ما ذكره ابن جرير.
وقد ذكر أبو بكر مُحَمْد بن الحسن النقاش أن أصحاب الرس كانت لهم بئر ترويهم وتكفي أرضهم جميعها، وكان لهم ملك عادل حسن السيرة، فلما مات وجدوا عليه وجداً عظيماً، فلما كان بعد أيام تصوّر لهم الشّيْطان في صورته، وقال: إني لم أمت، ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم، ففرحوا أشد الفرح وأمر بضرب حجاب بينهم وبينه، وأخبرهم أنه لا يموت أبداً، فصدق به أكثرهم وافتتنوا به وعبدوه. فبعث الله فيهم نبياً فأخبرهم أن هذا شيطان يخاطبهم من وراء الحجاب، ونهاهم عن عبادته، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.قال السهيلي: وكان يوحى إليه في النوم، وكان اسمه حنظلة بن صفوان، فَعَدوْا عليه فقتلوه، وألقوه في البئر، فغار ماؤها، وعطشوا بعد ريهم، ويبست أشجارهم وانقطعت ثمارهم، وخربت ديارهم، وتبدلوا بعد الأنس بالوحشة وبعد الاجتماع بالفرقة وهلكوا عن أخرهم، وسكن في مساكنهم الجن والوحوش، فلا يسمع ببقاعهم إلا عزيف الجن وزئير الأسود وصوت الضباع.
فأما ما رواه - أعني ابن جرير - عن مُحَمْد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق عن مُحَمْد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول الناس يدخل الجنَّة يوم القيامة العبد الأسود - وذلك أن الله تعالى بعث نبياً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الأسود. ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئراً فألقوه فيها، ثم أطبقوا عليه بحجر أصم، قال: فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاماً وشراباً، ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة ويعينه الله عليها ويدلى إليه طعامه وشرابه ثم يردها، كما كانت. قال: فكان كذلك ما شاء الله أن يكون. ثم إنه ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع، فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها، فلما أراد أن يحتملها وجد سَنَةً، فاضطجع ينام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً، ثم إنه هب فتمطّى، وتحوّل لشقه الآخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى، ثم إنه هب واحتمل حزمته، ولا يحسب أنه نام إلا ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته، ثم اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع. ثم إنه ذهب إلى الحفيرة إلى موضعها الذي كانت فيه فالتمسه فلم يجده، وقد كان بدا لقومه فيه بداء، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه. قال فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل؟ فيقولون له: ما ندري حتى قبض الله النبي عليه السلام، وهبَّ الأسود من نومته بعد ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنَّة » .
فإنه حديث مرسل ومثله فيه نظر. ولعل بسط قصته من كلام مُحَمْد بن كعب القرظي والله أعلم.
ثم قد رده ابن جرير نفسه وقال: لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس المذكورون في القرآن، قال: لأنَّ الله أخبر عن أصحاب الرَّسِّ انه أهلكهم، وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم. اللهم إلا أن يكون حدثت لهم أحداث، آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم والله أعلم. ثم اختار أنهم أصحاب الأخدود، وهو ضعيف لما تقدم ولما ذكر في قصة أصحاب الأخدود حيث توعّدوا بالعذاب في الآخرة إن لم يتوبوا ولم يذكر هلاكهم، وقد صرح بهلاك أصحاب الرَّسِّ والله تعالى أعلم.