تتابع تناقُص وتضاؤل الجيش الصليبي يومًا بعد يوم بِسبب المجاعة والفرار، فرأى المندوب البابوي أدهمار أنَّهُ لا بُدَّ من اِلتماس المُساعدة من الغرب لِإسال إمداداتٍ على وجه السُرعة. وحدث أن كان الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين يُغيرُ على الأناضول، فأرسل إليه يلتمس المُساعدة منه. واستبدَّ القلق والضيق بِبوهيموند خاصَّةً لِحرصه وعزمه على الانفراد بِحُكم أنطاكية، فإذا وصل الإمبراطور الرومي قبل سُقُوط المدينة أو إذا لم يتيسَّر هزيمة كربوقا إلَّا بِمُساعدته؛ أضحى من المُستحيل الامتناع عن رد المدينة إليه بِسبب العهد الذي قطعه القائد الصليبي على نفسه في القُسطنطينيَّة، لِذلك قرَّر أن يحصل عليها رُغم إرادة الإمبراطور.[97] ونفَّذ بوهيموند خطَّته بِبراعةٍ فائقة، فاختار أصعب أوقات الحصار وأشدَّها حرجًا لِيُعلن أنَّهُ أزمع الانسحاب والعودة إلى إيطاليا، وأنَّهُ لا يستطيع الاستمرار في تلك العمليَّة الحربيَّة الطويلة التي لم يكن مُستعدًا لها، ولا يُمكنه أن يصبر على رؤية رجاله وفُرسانه وخُيُوله وهم يتساقطون كُلَّ يومٍ صرعى من الجوع أمام أسوار أنطاكية. ومن الواضح أنَّ هذا كان يعني تعريض الصليبيين جميعًا لِكارثةٍ مُحقَّقة لأنَّ بوهيموند ورجاله صاروا بِمثابة العمود الفقري لِلقُوَّات الصليبيَّة المُحاصرة لِلمدينة، لِذلك أسرع جميع قادة الحملة - فيما عدا ريموند - وتوسَّلوا إلى بوهيموند حتَّى لا يتركهم، ووعدوه بِتسليمه أنطاكية فور الاستيلاء عليها. وكان ذلك هو كُل ما استهدفه بوهيموند من وراء مُناورته، فلم يبقَ لهُ بعد ذلك سوى إظهار مقدرته وكفايته في الاستيلاء على البلد.[89] بعد ذلك سعى بوهيموند إلى التخلُّص من القُوَّة البيزنطيَّة بِقيادة تاتيكيوس التي كانت تُساعد الصليبيين في حصار أنطاكية حتَّى لا يُطالب بِردِّها تحت جناح الإمبراطوريَّة إذا استولى الصليبيُّون عليها، فأوهمه بِأنَّ قادة الحملة يتهمونه بِالتواطؤ مع السلاجقة ضدَّهم، وأنَّهم يُدبرون مُؤامرةً لِاغتياله. ونجحت الخطَّة، إذ خشي القائد البيزنطي على حياته، فترك المُعسكر الصليبي ولاذ بِالفرار.[97]
وجاءت الفُرصة التي انتظرها بوهيموند بِخيانةٍ داخليَّةٍ من أحد أهالي أنطاكية، ذلك أنَّ أحد أُمراء الأبراج، المدعو «فيروز الزرَّاد»، راسل القائد الصليبي قائلًا له: «أَنَا فِي الْبُرْجِ الْفُلَانِيّ، وَأَنَا أُسَلِّمُ إلَيْكَ أَنْطَاكِيَة أَن أَمَّنْتَنِي وَأَعطَيتَنِي كَذَا وَكَذَا». وكان فيروز المذكور حانقًا على ياغي سيان كونه صادر ماله وغلَّته،[100] وكان أرمنيًّا أسلم ظاهريًّا، وتقرَّب من ياغي سيان فأصبح أميرًا على ثلاثةٍ من الأبراج الكبيرة، واشتهر بِتقلُّبه وحُبِّه الرفعة والمال،[101] فبذل لهُ بوهيموند ما طلب ومنحهُ مالًا وإقطاعًا،[102] وكتم أمره عن بقيَّة الصليبيين.[100] ولم تلبث أن تواترت الأخبار بِقُدوم كربوقا بِأُلُوفٍ من الرجال لنجدة أنطاكية، فخاف الصليبيُّون، وسارع بوهيموند إلى الاتفاق مع فيروز على وقتٍ وظرف لِتسهيل دُخُول القوى المُحاصرة، وفي اليوم التالي جمع الصليبيُّون خيامهم وأغراضهم وانسحبوا مُعلنين السير نحو بيت المقدس، وما زالوا سائرين نحوها حتى تواروا عن العُيُون، ثُمَّ انعطفوا راجعين في الليل.[101] وفي الليلة المذكورة: 28 جُمادى الآخرة 491هـ المُوافق فيه 2 حُزيران (يونيو) 1098م،[103] وقُبيل الفجر أنفذ بوهيموند قُوَّةً صغيرةً إلى بُرج الأُختين الذي كان يحرسه فيروز، وصعدوا على السلالم إلى هذا البُرج وانطلقوا منه إلى غيره، وقتلوا الحُرَّاس وهيَّجوا نصارى البلد وكسروا أبوابها،[101] وأوقع الصليبيُّون بأهل المدينة من المُسلمين مذبحةً رهيبة، وطالت سُيُوفهم بدايةً الأثرياء، فاقتحموا بُيُوتهم وقتلوا الرجال والنساء والأولاد والخدم واستولوا على ما وجدوه فيها من نفائس، وحاولوا الاستيلاء على قلعة المدينة في اليوم نفسه، لكنَّهم فشلوا، وجُرح بوهيموند أثناء هذا الهُجُوم الفاشل.[104] يقول وليم الصوري واصفًا المجزرة التي وقعت في أنطاكية:[105]
الحملة الصليبية الأولى … وَتَرَدَّدَ فِي أَنْحَاءِ الْمُعَسْكَر قَرْع الْأَسْلِحَة، وَقَعْقَعَة السُّيُوف البَرَّاقَة، وَصَهِيل الْخَيْل، وَصُرَاخ الرِّجَال، وَاخْتَلَطَ الحَابِلُ بِالنَّابِلِ… وَتَجَمَّع عَلَى أَسْوار أَنْطَاكِيَة وَفَوْقَ أَبْرَاجِهَا، نِسَاء الْمَدِينَة وَبَنَاتُهُنَّ وِصِغَارَهُنَّ وَشُيُوخ الْبَلَد، وَكُلُّ مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الدّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ، يُشَاهِدُون - مِنْ مَكَانهمْ الَّذِي يَقِفُون فِيه - المَذبَحَة الَّتِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ، وَعَلَا بُكَاؤُهُم وَرَاحُوا يَنْدُبُون مَصَارِع أَصْحَابِهِم وَلِسَانُ حَالِهِم يَقُول: "مَا أَسْعَدَ مَنْ تَرَفَّقَ بِهِمْ الْمَوْت فَقَبَض أَرْوَاحَهُم قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُم هَذِه الخُطُوب". أَمَّا الْأُمَّهَات اللَّاتِي كُنَّ يَتَفَاخَرْن بِكَثْرَةِ أَوْلَادَهُنّ، فَقَد أَصْبَحْن مَوْضِع الرَّثَاء وَصَارَت الْعَاقِر مِنْهُنّ أَسْعَدَ مَنْ كُلِّ ذَاتِ وَلَد… وَكَانَت آثَار المَذبَحَة وَاضِحَةٌ كُلّ الْوُضُوح حَوْل الْجِسْر وَالنَّهْرِ الَّذِي تَبَدَّلَ لَوْنُ مِائَة وَرَاح يُصِبْ فِي الْبَحْرِ سُيْلًا جَارِفًا مِنْ الدِّمَاءِ. الحملة الصليبية الأولى
أمَّا ياغي سيان، فبعد أن أدرك أنَّ كُلَّ شيءٍ قد ضاع، حاول الفرار مع من فرَّ من المُسلمين، ولكنَّهُ سقط عن حصانه، فانقضَّ عليه بعض الأرمن وقتلوه وحملوا رأسه إلى الصليبيين.[100] وبِهذا سقطت أنطاكية بِيد الغُزاة الغربيين، وأثار خبر سُقُوطها موجةً من الذُعر في البُلدان الإسلاميَّة القريبة مثل «عِمَ» و«إنِّب»، فهرب من كان بها من المُسلمين وتسلَّمها الأرمن،[100] كما كان لِهذا الانتصار الصليبي دويٌّ هائلٌ في العالم المسيحي لا يفوقه إلَّا أثر سُقُوط بيت المقدس نفسها بعد نحو سنة.[106]
حملة قوام الدين كربوقا
عدل
المقالة الرئيسة: معركة أنطاكية (1098)
مُنمنمة إفرنجيَّة تعود لِلقرن الرابع عشر الميلادي تُصوِّرُ حصار أنطاكية على يد المُسلمين بِقيادة كربوقا.
في الوقت الذي كان فيه الصليبيُّون يُحاصرون أنطاكية، أعدَّ قوام الدين كربوقا أمير الموصل جيشًا كبيرًا لِنجدة المدينة، وسانده سُلطانا السلاجقة في فارس والعراق بركياروق ومُحمَّد وقد وعداه بِالمُساعدة، غير أنَّ ما ارتكبه من أخطاءٍ في التقدير هيَّأ لِلصليبيين الفُرصة لِلتنفُّس والراحة، ومكَّنهم من الاستيلاء على أنطاكية، إذ لم يشأ هذا القائد المُسلم أن يزحف مُباشرةً إلى أنطاكية خشية أن ينقضَّ الصليبيُّون في الرُّها على جناح جيشه الأيمن، لِذلك توقَّف أمام المدينة سالِفة الذِكر في مُحاولةٍ لِانتزاعها من يد بلدوين.[107][la 70] ولم يُدرك كربوقا أنَّ ما بذله من جُهدٍ وما أنفقه من وقتٍ إنَّما ضاع سُدى، إلَّا بعد مضيّ الأسابيع الثلاثة الأخيرة من جُمادى الآخرة 491هـ المُوافق فيه أيَّار (مايو) 1098م، وهو يُحاول عبثًا مُهاجمة أسوارها، وبعد أن كان بوهيموند قد أحكم خطَّته العسكريَّة لِدُخُول أنطاكية كما أُسلف، ما دفع وليم الصوري إلى القول بِأنَّ دفاع بلدوين قُمَّس الرُّها ومُقاومته هي التي أنقذت الصليبيين أمام أنطاكية.[107]
تخلَّى كربوقا في نهاية شهر أيَّار (مايو) عن حصاره الفاشل الذي فرضه على الرُّها وراح يحُثُّ الخُطى بِاتجاه أنطاكية، وتوقَّف قليلًا في مرج دابق شماليّ حلب فانضمَّ إليه دقَّاق والأتابك طُغتكين وأرسلانطاش صاحب سنجار وسُقمان بن أرتق، وغيرهم من أُمراء المُسلمين،[108] ورفض رضوان الاشتراك بِالحملة بِسبب خلافه مع أخيه دقَّاق، وردَّ عليه كربوقا بِأن ضمَّ جناح الدولة حُسين بن ملاعب صاحب حِمص.[107] وهكذا اجتمع الجيش الإسلامي الجرَّار في مرج دابق، وقدَّر ابن العبري تعداده بِمائة ألف مُقاتل،(3)[109] ثُمَّ انطلق منها في طريقه إلى أنطاكية عبر وادي العاصي، فاصطدم بِقُوَّةٍ عسكريَّةٍ صليبيَّة في جسر الحديد إلى الشمال الشرقي من المدينة وقتل أفرادها، ثُمَّ لم تلبث أن ظهرت طلائعه أمام أسوارها في صبيحة يوم الثُلاثاء 6 رجب 491هـ المُوافق فيه 8 حُزيران (يونيو) 1098م.[110] حاول كربوقا اقتحام المدينة فورًا عن طريق قلعتها التي كانت لا تزال بِأيدي المُسلمين بِقيادة شمس الدولة ابن ياغي سيان، لكنَّهُ فشل في ذلك، فضيَّق عندئذٍ الحصار عليها.[107] وهكذا انقلب الوضع وصار الصليبيُّون مُحاصرين داخل أنطاكية والمُسلمون خارجها يُطوِّقونها ويعملون على تجويع من بِداخلها؛ وذلك بعد أن كان الصليبيُّون يُحاصرون المدينة ويعملون على قطع الزاد عن ياغي سيان وحاميته الإسلاميَّة.
عانى الصليبيُّون كثيرًا من شدَّة الحصار، وتحرَّج موقفهم وعمَّت المجاعة بينهم، وانتشر الوباء في صُفُوفهم، ونفذت أقواتهم، ومات عددٌ كبيرٌ منهم، وبلغوا درجةً من اليأس جعلتهم يُفكِّرون بِالاستسلام، فقال وليم الصوري واصفًا حالهم: «كَمَا كَابَدُوا شَظَف الْعَيْش بِسَبَب الْمَجَاعَة الَّتِي جَاوَزَت كُلَّ حَدٍّ، وَهَكَذَا وَقَعُوا بَيْن خَطْبَين: السَّيْفَ فِي الْخَارِجِ وَالْفَزَع فِي الدَّاخِلِ»،[111] وقال ابن الأثير: «وَأَقَام الْفِرِنْج بِأَنطَاكِيَة بَعْدَ أَنْ مَلَكُوهَا اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا لَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَه، وَتَقَوَّتَ الْأَقْوِيَاءُ بِدَوَابِّهِم وَالضُّعَفَاء بِالْمَيْتَة وَوَرَقِ الشَّجَرِ، فَلَمّا رَأَوْا ذَلِكَ أَرْسَلُوا إلَى كَرْبُوقَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَان لِيَخْرُجُوا مِنْ الْبَلَدِ، فَلَم يُعْطِهِم مَا طَلَبُوا وَقَالَ: "لَا تُخْرَجُون إلَّا بِالسَّيْفِ"».[108] وهكذا كانت الأُمُور تسير من سيّءٍ إلى أسوأ بِالنسبة لِلصليبيين المُحاصرين على الرُّغم ممَّا أبداه بوهيموند من شجاعةٍ وحزم. وفي وسط تلك الأزمة أخذ كثيرٌ من الفُرسان يُعبِّرون عن ندمهم على ترك بلادهم والحُضُور إلى المشرق، بل لقد جاهر بعضهم بأنَّ أسطفان البلوائي كان على حقٍّ عندما انسحب أثناء حصار الصليبيين لِأنطاكية وقفل راجعًا إلى بلاده. ولم يبقَ أملٌ لِلصليبيين في أنطاكية لِلخلاص من تلك المحنة التي ألمَّت بهم سوى الاستعانة بِالإمبراطور البيزنطي لِيطعن كربوقا وجيشه من الخلف، لِذلك استنجد الصليبيُّون بِالإمبراطور الذي استجاب لِندائهم وخرج على رأس جيشه قاصدًا أنطاكية مُخترقًا آسيا الصُغرى. وقابل أثناء زحفه أسطفان البلوائي ورفاقه الهاربون، فأخبروه بِأنَّ المُسلمين استردُّوا أنطاكية وعلى وشك إبادة الصليبيين، وأنَّ هُناك جيشًا سُلجُوقيًّا يمضي في زحفه لِقتاله قبل أن يبلغ أنطاكية. ولمَّا لم يكن لِلإمبراطور دوافع تجعلهُ يرتاب في تلك الروايات، أعاد النظر في خططه، فإذا هلك الصليبيُّون فمن المُؤكَّد أنَّ المُسلمين سيمضون في الهُجُوم ما يدفع السلاجقة في الأناضول إلى مُحاولة استرداد ما فقدوه من أراضٍ، لِذلك عاد أدراجه.[112]
وظهرت في هذه الأثناء التي بدا فيها التخاذل واضحًا بين الصليبيين والذي تمثَّل في فرار الجُند واختبائهم في المنازل خوفًا من الاشتراك في القتال؛ بعض الأساطير والرؤى التي هدفت إلى إثارة الحماس الديني وتقوية الروح المعنويَّة المُنهارة بينهم. ففي مساء 10 رجب المُوافق فيه 14 حُزيران (يونيو)،[107] زعم قسٌّ پروڤنسالي مغمور يُدعى بُطرس برتلمي (بالفرنسية: Pierre Barthélemy) أنَّ القدِّيس أندراوس تبدَّى لهُ في المنام، وأعلمه بِأنَّ الحربة المُقدَّسة التي طُعن بها المسيح حين صلبه، مطمورةٌ في كنيسة القدِّيس بُطرس في أنطاكية.[113] وقصَّ بُطرسٌ هذا منامه على المندوب البابوي أدهمار وعلى ريموند الصنجيلي، فلم يُصدِّقه الأوَّل، فيما رأى الآخر أنَّ الأمر يستدعي التحقيق، واهتمَّ به اهتمامًا كبيرًا، خُصوصًا وأنَّ بُطرس برتلمي ينتمي إلى مُقاطعته. فكلَّف ثلاثة عشر شخصًا بِحفر المكان الذي عيَّنهُ لهم هذا الأخير، وساعدهم هو نفسه بِالعمل، فعثر على تلك الحربة وأظهرها لِلجميع، فهلَّل الناسُ لِمرآها واعتبروا بأنَّ النصر بات وشيكًا.[113] على أنَّ بعض الأشخاص انتابهم الشكّ في حقيقة هذه الحربة، التي هي كناية عن قطعةٍ من حديد تآكلها الصدأ، وليس لها معالم الحربة، وذلك لِعلمهم بأنَّ الحربة المُقدَّسة، التي زُعم بأنَّها الحقيقيَّة، موجودةٌ في القُسطنطينيَّة مُنذُ زمنٍ بعيد، حيثُ قيل بأنَّ بعض القادة الصليبيين شاهدوها وتبرَّكوا بها وقت مُرورهم بِالعاصمة البيزنطيَّة.[113] وقد أشار المُؤرِّخون والكُتَّاب المُسلمون بِأنَّ مسألة الحربة هي من قُبيل الحيل التي لجأ إليها الصليبيُّون لِرفع معنويَّات جيشهم، فقال ابن الأثير: «…وَكَانَ مَعَهُمْ رَاهِبٌ مُطَاعٌ فِيهُمْ وَكَانَ دَاهِيَةً مِنْ الرِّجَالِ فَقَالَ لَهُمْ إِنْ الْمَسِيحَ عليه السلام كَانَ لَهُ حَرْبَةٌ مَدْفُونَةٌ بِالفِيسَان الَّذِي بِأَنطَاكِيَة، وَهُوَ بِنَاءٌ عَظِيمٌ فَإِنْ وَجَدتُمُوهَا فَإِنَّكُم تَظْفَرُون وَإِنْ لَمْ تَجِدُوهَا فَالْهَلَاك مُتَحَقِّقٌ، وَكَانَ قَدْ دَفَنَ قَبْلَ ذَلِكَ حَرْبَةٌ فِي مَكَانٍ فِيهِ وَعَفَا أَثَرَهَا وَأَمَرَهُم بِالصَّوْم وَالتَّوْبَة فَفَعَلُوا ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعِ أَدْخَلَهُم الْمَوْضِع جَمِيعِهِم وَمَعَهُم عَامَّتُهُم وَالصُّنَّاع مِنْهُم وَحَفَرُوا فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ فَوَجَدُوهَا كَمَا ذَكَرَ، فَقَالَ لَهُمْ أَبْشِرُوا بِالظُّفْر…».[108] وسُرعان ما شاع بين الصليبيين أنفُسهم أنَّ هذه القصة ليست سوى خدعة ابتكرها ريموند الصنجيلي، فقرَّروا امتحان بُطرس برتلمي على الطريقة الجرمانيَّة بأن يعبر نيرانًا مُشتعلة، فإن نجا كان مُؤيَّدًا بالمُعجزة، وإن مات فهو كاذب، وقبل بُطرس الخُضُوع لِهذا الامتحان، فعبر وسط النيران فأُصيب بِحُروقٍ بالغة أودت بِحياته خلال بضعة أيَّامٍ، ما زاد في البلبلة.[107] ومهما يكن من أمر، فقد جدَّد زُعماء الصليبيين عُهُودهم وأقسموا على الاستمرار في القتال والإخلاص، ويعتبر المُؤرِّخ المصري المُعاصر الدكتور قاسم عبده قاسم أنَّ هذه الرُؤى والأحلام ليست سوى تجسيدٌ لِحقيقة فشل القادة في النضال، فلجأوا مرَّةً أُخرى إلى الأيديولوجيَّة والحافز الديني.[114]
وليس معنى سوء حال الصليبيين داخل أنطاكية أنَّ المُسلمين تمتعوا بِجبهةٍ مُتماسكة؛ بل على العكس ظلَّ المُسلمون في ذلك الدور الحاسم يُعانون خللًا واضحًا في صُفُوفهم ممَّا عاد عليهم بِالخسارة. ولعلَّ غياب رضوان أمير حلب وعدائه لِأخيه دقَّاق صاحب دمشق الذي رافق كربوقا، كان من العوامل التي خلقت جوًّا من القلق والاستياء في صُفُوف المُسلمين. ولمَّا أحسَّ كربوقا أنَّ مُساعدة رضوان لازمة وضروريَّة في سبيل تحقيق النصر، سعى لِلاتصال به، فتوهَّم دقَّاق من ذلك.[110] وفي الوقت نفسه رغب دقَّاق بِالعودة إلى دمشق لِمُراقبة توسُّع الفاطميين في فلسطين، وهو التوسُّع الذي سبَّب لهُ قلقًا بالغًا. ومن جهةٍ أُخرى فإنَّ أمير حِمص جناح الدولة حُسين بن ملاعب ظلَّ قلقًا من انتقام يُوسُف بن أبق أمير الرحبة ومنبج الذي كان على اتفاقٍ مع رضوان. بل لقد بلغ الأمر بالمُسلمين أمام أنطاكية أن انقسموا على أنفُسهم، فظهر الشقاق بين التُرك والعرب، وجرت بينهما مُناقرة أدَّت إلى مُغادرة العديد منهم، كما تفرَّق كثيرٌ من التُركُمان بِتدبير رضوان الذي راسلهم يدعوهم لِلعودة.[110][115] أمَّا المُؤرِّخ أبو الفداء فيُعلِّل لِروح التباغض والفرقة التي سادت زُعماء المُسلمين أمام أنطاكية بِأنَّ كربوقا أساء السيرة فيمن اجتمع معه من المُلُوك والأُمراء وتكبَّر عليهم، فخبثت نيَّاتهم عليه.[116] وفي الوقت الذي كان مُعسكر المُسلمين يُعاني ذلك التصدُّع والشقاق، أخذ بوهيموند ينفخ في الصليبيين روحًا جديدة، فألهب حماسهم، ثُمَّ خرج بهم يوم 25 رجب المُوافق فيه 28 حُزيران (يونيو) ونيَّته الدُخُول في معركةٍ فاصلةٍ مع المُسلمين،[115] وأضاع كربوقا فُرصةً ذهبيَّةً لِلقضاء على الصليبيين، إذ كانوا يخرجون من المدينة مُتفرِّقين، فنصح المُسلمون قائدهم أن يقتلوا كُل من خرج قبل أن يجتمعوا، فرفض مُستهينًا بِالعدوُّ ورأى أن ينتظر اكتمال خُرُوجهم فيقضي عليهم بِضربةٍ واحدة، لكن ما أن اكتمل خُرُوج الصليبيين حتَّى حملوا على المُسلمين فخرقوا صُفُوفهم وهزموهم شرَّ هزيمة، وكان سُقمان بن أرتق وجناح الدولة آخر من انهزم من الأُمراء، وعند فرارهما من الميدان لجأ كربوقا هو الآخر لِلفرار، فعمَّت الكارثة، وغنم الصليبيُّون أقوات المُسلمين وأموالهم وأثاثهم ودوابهم وأسلحتهم.[108] وبِذلك لم يُحقِّق الصليبيُّون انتصارًا على سلاجقة الروم وحدهم، وإنما أيضًا على سلاجقة الشَّام وفارس، فعاد كربوقا إلى الموصل تحوطه خيبة الأمل، وعاد دقَّاق إلى دمشق يجُرُّ أذيال الفشل،[115] وأُسقط في يد قائد قلعة أنطاكية شمس الدولة بن ياغي سيان، فسلَّمها إلى بوهيموند.[107]
سُقُوط البارة ومعرَّة النُعمان
عدل
المقالة الرئيسة: مذبحة معرة النعمان
جانبٌ من أطلال مسجد ثُمَّ كنيسة البارة.
شجَّع سُقُوط أنطاكية وهزيمة كربوقا، الصليبيين، فاستأنفوا نشاطهم العسكري ضدَّ المناطق المُحيطة بحلب على شكل غاراتٍ صغيرة. وفي تلك الفترة، خرج عُمر والي أعزاز على سيِّده رضوان صاحب حلب، فأرسل الأخير عسكرًا حاصروا البلدة، فما كان من عُمر إلَّا أن استنجد بالصليبيين، فسار إليه ريموند الصنجيلي بِعسكرٍ كبير، ممَّا دفع جيش رضوان إلى فك الحصار والعودة من حيث أتى، ونهب الصليبيُّون ما قدروا عليه، وعادوا إلى أنطاكية، بعد ما اصطحب ريموند ابن عُمر رهينةً.[117] وقاد أحد فُرسان ريموند المذكور في شعبان 491هـ المُوافق فيه تمُّوز (يوليو) 1098م قُوَّةً عسكريَّةً صغيرة هاجمت معرَّة النُعمان وتلمنس بِهدف احتلالهما، وهي الجهات الواقعة إلى الجنوب الشرقي من أنطاكية، أي أنَّها داخلة ضمن نطاق مُمتلكات رضوان. ويظهر أنَّ هذا الفارس، المدعو «ريموند پليه الأليسيائي» (بالفرنسية: Raymond Pilet d'Alès)، كان على صلةٍ بالسُريان والأرمن من أهل تلك النواحي، فتلقَّى مُساعدةً من سُكَّان تلمنس المسيحيين ومن أهل المعرَّة، لكنَّ رضوان أسرع بِإرسال فرقة عسكريَّة حلبيَّة التقت بالصليبيين في مكانٍ بين تلمنس ومعرَّة النُعمان، وأسفر اللقاء عن هزيمةٍ واضحةٍ لِلفُرسان الغربيين فيما ثُبت مُشاتهم، فقُتل منهم أكثر من ألف مُقاتل حُملت رؤوسهم إلى داخل المعرَّة.[110][118]
وأغار ريموند الصنجيلي في شهر ذي الحجَّة المُوافق لِتشرين الأوَّل (أكتوبر) على البارة شرقيّ نهر العاصي، بعد أن استولى على كورة الروج. ويبدو أنَّ رضوان لم يبذل جُهدًا في الدفاع عن البارة، فاستسلم سُكَّانُها وسلُّموا مدينتهم لِلصليبيين لقاء الأمان، لكنَّ ريموند غدر بهم، فعاقب الرجال والنساء واستصفى أموالهم وقتل بعضهم وسبى آخرين، وحوَّل المسجد الجامع إلى كنيسة، ثُمَّ سار بمن معهُ من الجُند ومن انضمَّ إليه من الأرمن والسُريان نحو معرَّة النُعمان.[118][119] وفي 28 ذي الحجَّة المُوافق فيه 28 تشرين الثاني (نوڤمبر)، نزل الصليبيُّون على المعرَّة وحاصروها وأتلفوا مزروعاتها وقطعوا أشجارها، إلَّا أنَّهم فشلوا في اقتحامها، واستغاث أهلها برضوان صاحب حلب وجناح الدولة أمير حِمص، فلم يُغثهم أحد،[119] فاضطرُّوا إلى الاعتماد على قُوَّتهم الذاتيَّة. وهكذا جدَّ الأهالي في حرب الصليبيين حتَّى أدرك هؤلاء أنَّهم لن يقدروا على اقتحام المدينة إلَّا باستخدام آلات حصار، فعملوا عند ذلك بُرجًا من خشب يُوازي سور المدينة ووقع القتال عليه فلم يتمكنوا بدايةً من تحقيق نصر، لكن ما أن حلَّ الليل خاف قومٌ من المُسلمين وتداخلهم الفشل والهلع وظنُّوا أنَّهم إذا تحصَّنوا ببعض الدُور الكبار امتنعوا بها، فنزلوا من السور وأخلوا الموضع الذي كانوا يحفظونه، فرآهم طائفة أخرى ففعلوا كفعلهم فخلا مكانهم أيضًا من السور ولم تزل تتبع طائفة منهم التي تليها في النُزُول حتَّى خلا السُّور، فصعد الصليبيُّون إليه على السلالم وشقُّوا طريقهم إلى داخل المدينة واستباحوها، وذلك ليلة الأحد 24 مُحرَّم 492هـ المُوافق فيه 21 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1098م.[119][120] واضطرَّ السُكَّان إلى الاستسلام مُقابل منحهم الأمان، فأجابهم الصليبيُّون إلى ذلك بدايةً، وفرضوا مبلغًا من المال على كُلِّ دار، فاطمأنَّ الناس. غير أنَّ الصليبيين غدروا بهم في اليوم التالي، فاستلُّوا سُيُوفهم وانقضوا على الأهالي وأخذوا يُقتِّلونهم كيفما وجدوهم، فوقعت مذبحة رهيبة دامت ثلاثة أيَّامٍ قُتل فيها أكثر من عشرين ألف رجُلٍ وامرأةٍ وصبيٍّ بحسب تقدير ابن العديم، ونُهب البلد نهبًا فاحشًا، ولم يسلم إلَّا القليل من أهله، اقتيد بعضهم أسارى وهلك بعضهم الآخر من العطش بعدما منع الصليبيُّون عنهم الماء.[119] وتنص المصادر الغربيَّة، بما فيها الصليبيَّة، على أمرٍ لم تتطرَّق إليه المصادر الإسلاميَّة رُغم أهميَّته، وهي أنَّ الجُنُود الصليبيُّون بلغت بهم الوحشيَّة مبلغًا غير معهود، فأكلوا لُحُوم قتلى المُسلمين، وقيل أنَّ دافعهم إلى ذلك كان الجوع وقلَّة الأقوات، وقيل شدَّة غيظهم ما أن اكتشفوا أنَّ المعرَّة لم تكن مدينةُ غنيَّةً كما تصوَّروا، وليس فيها من الغنائم ما يسدُّ رمقهم.[la 71][la 72] وأنشد ابن الوردي يصف هذه المذبحة، فقال:[121]
مَعَرَّةُ الأَذكِيَاءِ قَد حَرَدَت عَنَّا وَحقُّ المَلِيحَةِ الحَرَدِ
فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ كَانَ مَوْعِدُهُم فَمَا نَجَى مِن خَمِيسِهِم أَحَدِ
تأسيس إمارة أنطاكية
عدل
خريطة تُصوِّرُ الحُدُود التقريبيَّة لِإمارة أنطاكيَّة اللاتينيَّة (في سنة 1135م).
يُحتملُ أنَّ الغزوات التي قام بها الصليبيُّون بُعيد سُقُوط أنطاكية، بما فيها احتلال حارم ومُعرَّة النُعمان، لم تكن الغاية منها إلَّا إثبات وُجُودهم وتأمين المُؤن حتَّى يحين الوقت لِلزحف نحو بيت المقدس، ولم تلبث أن تهيَّأت الظُرُوف لِذلك الزحف بانقضاء فصل الصيف واعتدال درجة الحرارة. وكان الأُمراء الصليبيُّون قد أقسموا بعد هزيمة كربوقا أن يسيروا في شهر تشرين الأوَّل (أكتوبر) إلى بيت المقدس، فاجتمعوا في 3 ذي الحجَّة المُوافق فيه 1 تشرين الثاني (نوڤمبر) في أنطاكية لِلتشاور وقرَّروا في 7 ذي الحجَّة المُوافق فيه 5 تشرين الثاني (نوڤمبر) استئناف الزحف نحو هدفهم الأسمى.[122] أثار قرار الصليبيين هذا وضع أنطاكية القانوني، لا سيَّما وأنَّ بوهيموند ظلَّ مُتمسكًا بِحقِّه في السيطرة على كامل المدينة، في حين نازعه ريموند، علمًا أنَّ الأوَّل كان يُسيطر على ثلاثة أرباع المدينة إضافةً إلى القلعة، في حين كان الآخر يُسيطر على الجسر المنيع وقصر ياغي سيان، كما كان لِلإمبراطوريَّة البيزنطيَّة حُقُوقٌ في أنطاكية وفقًا لِلاتفاقيَّة المعقودة بين الإمبراطور ألكسيوس كومنين وزُعماء الحملة الصليبيَّة في سنة 490هـ المُوافقة لِسنة 1097م، بِوصفها كانت سابقًا من أملاك الروم.[123][124] وعندما أدرك بوهيموند أنَّ البيزنطيين لن يتنازلوا عن حقِّهم في أنطاكية؛ قرَّر السيطرة عليها رُغم إرادة الإمبراطور وخلق واقعٍ جديد، ومن جهته، ساند ريموند حق الإمبراطور البيزنطي في امتلاك أنطاكية من واقع احترام الاتفاقيَّة المذكورة. وبِذلك أدَّت مُشكلة حُكم المدينة إلى تأزيم الموقف بين الصليبيين والبيزنطيين إضافةً إلى زُعماء الحملة الصليبيَّة أنفُسهم.[124] وطال النقاش بين الزُعماء الصليبيين حول مصير أنطاكية، ورفض ريموند التنازل عن المراكز التي كان يحتلَّها، وأخذ في تحصينها، فاستاء الجُند وبقيَّة الفُرسان وهدَّدوا بِتدمير أسوار المدينة وتركها مكشوفةً أمام المُسلمين والبيزنطيين ثُمَّ مُغادرتها إلى بيت المقدس.[122]
أثار هذا التهديد مخاوف كُلًا من بوهيموند وريموند فضلًا عن بقيَّة الأُمراء الذين خشوا على مصيرهم وعلى مُستقبل الحملة، لِذلك بدأت المساعي الجديَّة لِلتوصُّل إلى حلٍّ لِتلك الأزمة. وعقد الزُعماء الصليبيُّون اجتماعاتٍ عدَّة في كنيسة القدِّيس بُطرس بِالمدينة لِحسم النزاع بينهما، فعرض بوهيموند على المُجتمعين الاتفاق الذي أبرمه معهم والذي ينُص على تنازلهم عن أنطاكية له، في حين أطلعه ريموند على نص اليمين الذي أقسموه بين يديّ الإمبراطور ألكسيوس كومنين بناءً على نصيحة بوهيموند نفسه، ولكنَّهم لم يصلوا إلى نتيجةٍ إيجابيَّة. ويبدو أنَّ ريموند أدرك أخيرًا أنَّ القضيَّة طال أمدها، وأنَّهُ لا بُدَّ من وضع حدٍ بسُرعةٍ لها، فدعا الأُمراء إلى الاجتماع به في الروج، وعرض عليهم مبالغ من المال لِيستقطبهم إلى جانبه ويعترفوا به زعيمًا أوحد لِلصليبيين في الشرق، إلَّا أنَّهُ فشل في ذلك، فقد رفض الأُمراء طُروحاته، وعمَّ الاستياء في المُقابل جميع صُفُوف الجُند والفُرسان، فأرغموه على المسير بأن دمَّروا أسوار معرَّة النُعمان، فأدرك عندئذٍ أنَّهُ لم يعد ثمَّة تأجيلٍ وإرجاء، فخرج من معرَّة النُعمان في 17 صفر 492هـ المُوافق فيه 13 كانون الثاني (يناير) 1099م على رأس قُوَّاته مُعلنًا الزحف إلى بيت المقدس، وتبعه بقيَّة الصليبيين باستثناء بوهيموند الذي عاد إلى أنطاكية، واختار البقاء فيها لِيُعلن تأسيس إمارة أنطاكية اللاتينيَّة، أمَّا معرَّة النُعمان فتقرَّر منحها لِأُسقُف البارة.[125][126] وبِهذا وُلدت ثاني الدُويلات الصليبيَّة في المشرق العربي.