منتديات العليمى للثقافة
منتديات العليمى للثقافة
منتديات العليمى للثقافة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


تهدف المنتديات إلى احياء الثقافة العامة لانشاء جيل واعى مدرك لاهمية العلم والمعرفة
 
الرئيسيةمرحبا بكم أعضاءالأحداثأحدث الصورAlolemy2018التسجيلدخول

 

 الحملة الصليبيَّة الأولى 2

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



المساهمات : 1696
تاريخ التسجيل : 26/04/2017
العمر : 37
الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية

الحملة الصليبيَّة الأولى  2 Empty
مُساهمةموضوع: الحملة الصليبيَّة الأولى 2   الحملة الصليبيَّة الأولى  2 Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 07, 2022 9:28 pm

تتابع تناقُص وتضاؤل الجيش الصليبي يومًا بعد يوم بِسبب المجاعة والفرار، فرأى المندوب البابوي أدهمار أنَّهُ لا بُدَّ من اِلتماس المُساعدة من الغرب لِإسال إمداداتٍ على وجه السُرعة. وحدث أن كان الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين يُغيرُ على الأناضول، فأرسل إليه يلتمس المُساعدة منه. واستبدَّ القلق والضيق بِبوهيموند خاصَّةً لِحرصه وعزمه على الانفراد بِحُكم أنطاكية، فإذا وصل الإمبراطور الرومي قبل سُقُوط المدينة أو إذا لم يتيسَّر هزيمة كربوقا إلَّا بِمُساعدته؛ أضحى من المُستحيل الامتناع عن رد المدينة إليه بِسبب العهد الذي قطعه القائد الصليبي على نفسه في القُسطنطينيَّة، لِذلك قرَّر أن يحصل عليها رُغم إرادة الإمبراطور.[97] ونفَّذ بوهيموند خطَّته بِبراعةٍ فائقة، فاختار أصعب أوقات الحصار وأشدَّها حرجًا لِيُعلن أنَّهُ أزمع الانسحاب والعودة إلى إيطاليا، وأنَّهُ لا يستطيع الاستمرار في تلك العمليَّة الحربيَّة الطويلة التي لم يكن مُستعدًا لها، ولا يُمكنه أن يصبر على رؤية رجاله وفُرسانه وخُيُوله وهم يتساقطون كُلَّ يومٍ صرعى من الجوع أمام أسوار أنطاكية. ومن الواضح أنَّ هذا كان يعني تعريض الصليبيين جميعًا لِكارثةٍ مُحقَّقة لأنَّ بوهيموند ورجاله صاروا بِمثابة العمود الفقري لِلقُوَّات الصليبيَّة المُحاصرة لِلمدينة، لِذلك أسرع جميع قادة الحملة - فيما عدا ريموند - وتوسَّلوا إلى بوهيموند حتَّى لا يتركهم، ووعدوه بِتسليمه أنطاكية فور الاستيلاء عليها. وكان ذلك هو كُل ما استهدفه بوهيموند من وراء مُناورته، فلم يبقَ لهُ بعد ذلك سوى إظهار مقدرته وكفايته في الاستيلاء على البلد.[89] بعد ذلك سعى بوهيموند إلى التخلُّص من القُوَّة البيزنطيَّة بِقيادة تاتيكيوس التي كانت تُساعد الصليبيين في حصار أنطاكية حتَّى لا يُطالب بِردِّها تحت جناح الإمبراطوريَّة إذا استولى الصليبيُّون عليها، فأوهمه بِأنَّ قادة الحملة يتهمونه بِالتواطؤ مع السلاجقة ضدَّهم، وأنَّهم يُدبرون مُؤامرةً لِاغتياله. ونجحت الخطَّة، إذ خشي القائد البيزنطي على حياته، فترك المُعسكر الصليبي ولاذ بِالفرار.[97]

وجاءت الفُرصة التي انتظرها بوهيموند بِخيانةٍ داخليَّةٍ من أحد أهالي أنطاكية، ذلك أنَّ أحد أُمراء الأبراج، المدعو «فيروز الزرَّاد»، راسل القائد الصليبي قائلًا له: «أَنَا فِي الْبُرْجِ الْفُلَانِيّ، وَأَنَا أُسَلِّمُ إلَيْكَ أَنْطَاكِيَة أَن أَمَّنْتَنِي وَأَعطَيتَنِي كَذَا وَكَذَا». وكان فيروز المذكور حانقًا على ياغي سيان كونه صادر ماله وغلَّته،[100] وكان أرمنيًّا أسلم ظاهريًّا، وتقرَّب من ياغي سيان فأصبح أميرًا على ثلاثةٍ من الأبراج الكبيرة، واشتهر بِتقلُّبه وحُبِّه الرفعة والمال،[101] فبذل لهُ بوهيموند ما طلب ومنحهُ مالًا وإقطاعًا،[102] وكتم أمره عن بقيَّة الصليبيين.[100] ولم تلبث أن تواترت الأخبار بِقُدوم كربوقا بِأُلُوفٍ من الرجال لنجدة أنطاكية، فخاف الصليبيُّون، وسارع بوهيموند إلى الاتفاق مع فيروز على وقتٍ وظرف لِتسهيل دُخُول القوى المُحاصرة، وفي اليوم التالي جمع الصليبيُّون خيامهم وأغراضهم وانسحبوا مُعلنين السير نحو بيت المقدس، وما زالوا سائرين نحوها حتى تواروا عن العُيُون، ثُمَّ انعطفوا راجعين في الليل.[101] وفي الليلة المذكورة: 28 جُمادى الآخرة 491هـ المُوافق فيه 2 حُزيران (يونيو) 1098م،[103] وقُبيل الفجر أنفذ بوهيموند قُوَّةً صغيرةً إلى بُرج الأُختين الذي كان يحرسه فيروز، وصعدوا على السلالم إلى هذا البُرج وانطلقوا منه إلى غيره، وقتلوا الحُرَّاس وهيَّجوا نصارى البلد وكسروا أبوابها،[101] وأوقع الصليبيُّون بأهل المدينة من المُسلمين مذبحةً رهيبة، وطالت سُيُوفهم بدايةً الأثرياء، فاقتحموا بُيُوتهم وقتلوا الرجال والنساء والأولاد والخدم واستولوا على ما وجدوه فيها من نفائس، وحاولوا الاستيلاء على قلعة المدينة في اليوم نفسه، لكنَّهم فشلوا، وجُرح بوهيموند أثناء هذا الهُجُوم الفاشل.[104] يقول وليم الصوري واصفًا المجزرة التي وقعت في أنطاكية:[105]

الحملة الصليبية الأولى … وَتَرَدَّدَ فِي أَنْحَاءِ الْمُعَسْكَر قَرْع الْأَسْلِحَة، وَقَعْقَعَة السُّيُوف البَرَّاقَة، وَصَهِيل الْخَيْل، وَصُرَاخ الرِّجَال، وَاخْتَلَطَ الحَابِلُ بِالنَّابِلِ… وَتَجَمَّع عَلَى أَسْوار أَنْطَاكِيَة وَفَوْقَ أَبْرَاجِهَا، نِسَاء الْمَدِينَة وَبَنَاتُهُنَّ وِصِغَارَهُنَّ وَشُيُوخ الْبَلَد، وَكُلُّ مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الدّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ، يُشَاهِدُون - مِنْ مَكَانهمْ الَّذِي يَقِفُون فِيه - المَذبَحَة الَّتِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ، وَعَلَا بُكَاؤُهُم وَرَاحُوا يَنْدُبُون مَصَارِع أَصْحَابِهِم وَلِسَانُ حَالِهِم يَقُول: "مَا أَسْعَدَ مَنْ تَرَفَّقَ بِهِمْ الْمَوْت فَقَبَض أَرْوَاحَهُم قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُم هَذِه الخُطُوب". أَمَّا الْأُمَّهَات اللَّاتِي كُنَّ يَتَفَاخَرْن بِكَثْرَةِ أَوْلَادَهُنّ، فَقَد أَصْبَحْن مَوْضِع الرَّثَاء وَصَارَت الْعَاقِر مِنْهُنّ أَسْعَدَ مَنْ كُلِّ ذَاتِ وَلَد… وَكَانَت آثَار المَذبَحَة وَاضِحَةٌ كُلّ الْوُضُوح حَوْل الْجِسْر وَالنَّهْرِ الَّذِي تَبَدَّلَ لَوْنُ مِائَة وَرَاح يُصِبْ فِي الْبَحْرِ سُيْلًا جَارِفًا مِنْ الدِّمَاءِ. الحملة الصليبية الأولى
أمَّا ياغي سيان، فبعد أن أدرك أنَّ كُلَّ شيءٍ قد ضاع، حاول الفرار مع من فرَّ من المُسلمين، ولكنَّهُ سقط عن حصانه، فانقضَّ عليه بعض الأرمن وقتلوه وحملوا رأسه إلى الصليبيين.[100] وبِهذا سقطت أنطاكية بِيد الغُزاة الغربيين، وأثار خبر سُقُوطها موجةً من الذُعر في البُلدان الإسلاميَّة القريبة مثل «عِمَ» و«إنِّب»، فهرب من كان بها من المُسلمين وتسلَّمها الأرمن،[100] كما كان لِهذا الانتصار الصليبي دويٌّ هائلٌ في العالم المسيحي لا يفوقه إلَّا أثر سُقُوط بيت المقدس نفسها بعد نحو سنة.[106]

حملة قوام الدين كربوقا
عدل
المقالة الرئيسة: معركة أنطاكية (1098)

مُنمنمة إفرنجيَّة تعود لِلقرن الرابع عشر الميلادي تُصوِّرُ حصار أنطاكية على يد المُسلمين بِقيادة كربوقا.
في الوقت الذي كان فيه الصليبيُّون يُحاصرون أنطاكية، أعدَّ قوام الدين كربوقا أمير الموصل جيشًا كبيرًا لِنجدة المدينة، وسانده سُلطانا السلاجقة في فارس والعراق بركياروق ومُحمَّد وقد وعداه بِالمُساعدة، غير أنَّ ما ارتكبه من أخطاءٍ في التقدير هيَّأ لِلصليبيين الفُرصة لِلتنفُّس والراحة، ومكَّنهم من الاستيلاء على أنطاكية، إذ لم يشأ هذا القائد المُسلم أن يزحف مُباشرةً إلى أنطاكية خشية أن ينقضَّ الصليبيُّون في الرُّها على جناح جيشه الأيمن، لِذلك توقَّف أمام المدينة سالِفة الذِكر في مُحاولةٍ لِانتزاعها من يد بلدوين.[107][la 70] ولم يُدرك كربوقا أنَّ ما بذله من جُهدٍ وما أنفقه من وقتٍ إنَّما ضاع سُدى، إلَّا بعد مضيّ الأسابيع الثلاثة الأخيرة من جُمادى الآخرة 491هـ المُوافق فيه أيَّار (مايو) 1098م، وهو يُحاول عبثًا مُهاجمة أسوارها، وبعد أن كان بوهيموند قد أحكم خطَّته العسكريَّة لِدُخُول أنطاكية كما أُسلف، ما دفع وليم الصوري إلى القول بِأنَّ دفاع بلدوين قُمَّس الرُّها ومُقاومته هي التي أنقذت الصليبيين أمام أنطاكية.[107]

تخلَّى كربوقا في نهاية شهر أيَّار (مايو) عن حصاره الفاشل الذي فرضه على الرُّها وراح يحُثُّ الخُطى بِاتجاه أنطاكية، وتوقَّف قليلًا في مرج دابق شماليّ حلب فانضمَّ إليه دقَّاق والأتابك طُغتكين وأرسلانطاش صاحب سنجار وسُقمان بن أرتق، وغيرهم من أُمراء المُسلمين،[108] ورفض رضوان الاشتراك بِالحملة بِسبب خلافه مع أخيه دقَّاق، وردَّ عليه كربوقا بِأن ضمَّ جناح الدولة حُسين بن ملاعب صاحب حِمص.[107] وهكذا اجتمع الجيش الإسلامي الجرَّار في مرج دابق، وقدَّر ابن العبري تعداده بِمائة ألف مُقاتل،(3)[109] ثُمَّ انطلق منها في طريقه إلى أنطاكية عبر وادي العاصي، فاصطدم بِقُوَّةٍ عسكريَّةٍ صليبيَّة في جسر الحديد إلى الشمال الشرقي من المدينة وقتل أفرادها، ثُمَّ لم تلبث أن ظهرت طلائعه أمام أسوارها في صبيحة يوم الثُلاثاء 6 رجب 491هـ المُوافق فيه 8 حُزيران (يونيو) 1098م.[110] حاول كربوقا اقتحام المدينة فورًا عن طريق قلعتها التي كانت لا تزال بِأيدي المُسلمين بِقيادة شمس الدولة ابن ياغي سيان، لكنَّهُ فشل في ذلك، فضيَّق عندئذٍ الحصار عليها.[107] وهكذا انقلب الوضع وصار الصليبيُّون مُحاصرين داخل أنطاكية والمُسلمون خارجها يُطوِّقونها ويعملون على تجويع من بِداخلها؛ وذلك بعد أن كان الصليبيُّون يُحاصرون المدينة ويعملون على قطع الزاد عن ياغي سيان وحاميته الإسلاميَّة.

عانى الصليبيُّون كثيرًا من شدَّة الحصار، وتحرَّج موقفهم وعمَّت المجاعة بينهم، وانتشر الوباء في صُفُوفهم، ونفذت أقواتهم، ومات عددٌ كبيرٌ منهم، وبلغوا درجةً من اليأس جعلتهم يُفكِّرون بِالاستسلام، فقال وليم الصوري واصفًا حالهم: «كَمَا كَابَدُوا شَظَف الْعَيْش بِسَبَب الْمَجَاعَة الَّتِي جَاوَزَت كُلَّ حَدٍّ، وَهَكَذَا وَقَعُوا بَيْن خَطْبَين: السَّيْفَ فِي الْخَارِجِ وَالْفَزَع فِي الدَّاخِلِ»،[111] وقال ابن الأثير: «وَأَقَام الْفِرِنْج بِأَنطَاكِيَة بَعْدَ أَنْ مَلَكُوهَا اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا لَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَه، وَتَقَوَّتَ الْأَقْوِيَاءُ بِدَوَابِّهِم وَالضُّعَفَاء بِالْمَيْتَة وَوَرَقِ الشَّجَرِ، فَلَمّا رَأَوْا ذَلِكَ أَرْسَلُوا إلَى كَرْبُوقَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَان لِيَخْرُجُوا مِنْ الْبَلَدِ، فَلَم يُعْطِهِم مَا طَلَبُوا وَقَالَ: "لَا تُخْرَجُون إلَّا بِالسَّيْفِ"».[108] وهكذا كانت الأُمُور تسير من سيّءٍ إلى أسوأ بِالنسبة لِلصليبيين المُحاصرين على الرُّغم ممَّا أبداه بوهيموند من شجاعةٍ وحزم. وفي وسط تلك الأزمة أخذ كثيرٌ من الفُرسان يُعبِّرون عن ندمهم على ترك بلادهم والحُضُور إلى المشرق، بل لقد جاهر بعضهم بأنَّ أسطفان البلوائي كان على حقٍّ عندما انسحب أثناء حصار الصليبيين لِأنطاكية وقفل راجعًا إلى بلاده. ولم يبقَ أملٌ لِلصليبيين في أنطاكية لِلخلاص من تلك المحنة التي ألمَّت بهم سوى الاستعانة بِالإمبراطور البيزنطي لِيطعن كربوقا وجيشه من الخلف، لِذلك استنجد الصليبيُّون بِالإمبراطور الذي استجاب لِندائهم وخرج على رأس جيشه قاصدًا أنطاكية مُخترقًا آسيا الصُغرى. وقابل أثناء زحفه أسطفان البلوائي ورفاقه الهاربون، فأخبروه بِأنَّ المُسلمين استردُّوا أنطاكية وعلى وشك إبادة الصليبيين، وأنَّ هُناك جيشًا سُلجُوقيًّا يمضي في زحفه لِقتاله قبل أن يبلغ أنطاكية. ولمَّا لم يكن لِلإمبراطور دوافع تجعلهُ يرتاب في تلك الروايات، أعاد النظر في خططه، فإذا هلك الصليبيُّون فمن المُؤكَّد أنَّ المُسلمين سيمضون في الهُجُوم ما يدفع السلاجقة في الأناضول إلى مُحاولة استرداد ما فقدوه من أراضٍ، لِذلك عاد أدراجه.[112]
وظهرت في هذه الأثناء التي بدا فيها التخاذل واضحًا بين الصليبيين والذي تمثَّل في فرار الجُند واختبائهم في المنازل خوفًا من الاشتراك في القتال؛ بعض الأساطير والرؤى التي هدفت إلى إثارة الحماس الديني وتقوية الروح المعنويَّة المُنهارة بينهم. ففي مساء 10 رجب المُوافق فيه 14 حُزيران (يونيو)،[107] زعم قسٌّ پروڤنسالي مغمور يُدعى بُطرس برتلمي (بالفرنسية: Pierre Barthélemy)‏ أنَّ القدِّيس أندراوس تبدَّى لهُ في المنام، وأعلمه بِأنَّ الحربة المُقدَّسة التي طُعن بها المسيح حين صلبه، مطمورةٌ في كنيسة القدِّيس بُطرس في أنطاكية.[113] وقصَّ بُطرسٌ هذا منامه على المندوب البابوي أدهمار وعلى ريموند الصنجيلي، فلم يُصدِّقه الأوَّل، فيما رأى الآخر أنَّ الأمر يستدعي التحقيق، واهتمَّ به اهتمامًا كبيرًا، خُصوصًا وأنَّ بُطرس برتلمي ينتمي إلى مُقاطعته. فكلَّف ثلاثة عشر شخصًا بِحفر المكان الذي عيَّنهُ لهم هذا الأخير، وساعدهم هو نفسه بِالعمل، فعثر على تلك الحربة وأظهرها لِلجميع، فهلَّل الناسُ لِمرآها واعتبروا بأنَّ النصر بات وشيكًا.[113] على أنَّ بعض الأشخاص انتابهم الشكّ في حقيقة هذه الحربة، التي هي كناية عن قطعةٍ من حديد تآكلها الصدأ، وليس لها معالم الحربة، وذلك لِعلمهم بأنَّ الحربة المُقدَّسة، التي زُعم بأنَّها الحقيقيَّة، موجودةٌ في القُسطنطينيَّة مُنذُ زمنٍ بعيد، حيثُ قيل بأنَّ بعض القادة الصليبيين شاهدوها وتبرَّكوا بها وقت مُرورهم بِالعاصمة البيزنطيَّة.[113] وقد أشار المُؤرِّخون والكُتَّاب المُسلمون بِأنَّ مسألة الحربة هي من قُبيل الحيل التي لجأ إليها الصليبيُّون لِرفع معنويَّات جيشهم، فقال ابن الأثير: «…وَكَانَ مَعَهُمْ رَاهِبٌ مُطَاعٌ فِيهُمْ وَكَانَ دَاهِيَةً مِنْ الرِّجَالِ فَقَالَ لَهُمْ إِنْ الْمَسِيحَ عليه السلام كَانَ لَهُ حَرْبَةٌ مَدْفُونَةٌ بِالفِيسَان الَّذِي بِأَنطَاكِيَة، وَهُوَ بِنَاءٌ عَظِيمٌ فَإِنْ وَجَدتُمُوهَا فَإِنَّكُم تَظْفَرُون وَإِنْ لَمْ تَجِدُوهَا فَالْهَلَاك مُتَحَقِّقٌ، وَكَانَ قَدْ دَفَنَ قَبْلَ ذَلِكَ حَرْبَةٌ فِي مَكَانٍ فِيهِ وَعَفَا أَثَرَهَا وَأَمَرَهُم بِالصَّوْم وَالتَّوْبَة فَفَعَلُوا ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعِ أَدْخَلَهُم الْمَوْضِع جَمِيعِهِم وَمَعَهُم عَامَّتُهُم وَالصُّنَّاع مِنْهُم وَحَفَرُوا فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ فَوَجَدُوهَا كَمَا ذَكَرَ، فَقَالَ لَهُمْ أَبْشِرُوا بِالظُّفْر…».[108] وسُرعان ما شاع بين الصليبيين أنفُسهم أنَّ هذه القصة ليست سوى خدعة ابتكرها ريموند الصنجيلي، فقرَّروا امتحان بُطرس برتلمي على الطريقة الجرمانيَّة بأن يعبر نيرانًا مُشتعلة، فإن نجا كان مُؤيَّدًا بالمُعجزة، وإن مات فهو كاذب، وقبل بُطرس الخُضُوع لِهذا الامتحان، فعبر وسط النيران فأُصيب بِحُروقٍ بالغة أودت بِحياته خلال بضعة أيَّامٍ، ما زاد في البلبلة.[107] ومهما يكن من أمر، فقد جدَّد زُعماء الصليبيين عُهُودهم وأقسموا على الاستمرار في القتال والإخلاص، ويعتبر المُؤرِّخ المصري المُعاصر الدكتور قاسم عبده قاسم أنَّ هذه الرُؤى والأحلام ليست سوى تجسيدٌ لِحقيقة فشل القادة في النضال، فلجأوا مرَّةً أُخرى إلى الأيديولوجيَّة والحافز الديني.[114]
وليس معنى سوء حال الصليبيين داخل أنطاكية أنَّ المُسلمين تمتعوا بِجبهةٍ مُتماسكة؛ بل على العكس ظلَّ المُسلمون في ذلك الدور الحاسم يُعانون خللًا واضحًا في صُفُوفهم ممَّا عاد عليهم بِالخسارة. ولعلَّ غياب رضوان أمير حلب وعدائه لِأخيه دقَّاق صاحب دمشق الذي رافق كربوقا، كان من العوامل التي خلقت جوًّا من القلق والاستياء في صُفُوف المُسلمين. ولمَّا أحسَّ كربوقا أنَّ مُساعدة رضوان لازمة وضروريَّة في سبيل تحقيق النصر، سعى لِلاتصال به، فتوهَّم دقَّاق من ذلك.[110] وفي الوقت نفسه رغب دقَّاق بِالعودة إلى دمشق لِمُراقبة توسُّع الفاطميين في فلسطين، وهو التوسُّع الذي سبَّب لهُ قلقًا بالغًا. ومن جهةٍ أُخرى فإنَّ أمير حِمص جناح الدولة حُسين بن ملاعب ظلَّ قلقًا من انتقام يُوسُف بن أبق أمير الرحبة ومنبج الذي كان على اتفاقٍ مع رضوان. بل لقد بلغ الأمر بالمُسلمين أمام أنطاكية أن انقسموا على أنفُسهم، فظهر الشقاق بين التُرك والعرب، وجرت بينهما مُناقرة أدَّت إلى مُغادرة العديد منهم، كما تفرَّق كثيرٌ من التُركُمان بِتدبير رضوان الذي راسلهم يدعوهم لِلعودة.[110][115] أمَّا المُؤرِّخ أبو الفداء فيُعلِّل لِروح التباغض والفرقة التي سادت زُعماء المُسلمين أمام أنطاكية بِأنَّ كربوقا أساء السيرة فيمن اجتمع معه من المُلُوك والأُمراء وتكبَّر عليهم، فخبثت نيَّاتهم عليه.[116] وفي الوقت الذي كان مُعسكر المُسلمين يُعاني ذلك التصدُّع والشقاق، أخذ بوهيموند ينفخ في الصليبيين روحًا جديدة، فألهب حماسهم، ثُمَّ خرج بهم يوم 25 رجب المُوافق فيه 28 حُزيران (يونيو) ونيَّته الدُخُول في معركةٍ فاصلةٍ مع المُسلمين،[115] وأضاع كربوقا فُرصةً ذهبيَّةً لِلقضاء على الصليبيين، إذ كانوا يخرجون من المدينة مُتفرِّقين، فنصح المُسلمون قائدهم أن يقتلوا كُل من خرج قبل أن يجتمعوا، فرفض مُستهينًا بِالعدوُّ ورأى أن ينتظر اكتمال خُرُوجهم فيقضي عليهم بِضربةٍ واحدة، لكن ما أن اكتمل خُرُوج الصليبيين حتَّى حملوا على المُسلمين فخرقوا صُفُوفهم وهزموهم شرَّ هزيمة، وكان سُقمان بن أرتق وجناح الدولة آخر من انهزم من الأُمراء، وعند فرارهما من الميدان لجأ كربوقا هو الآخر لِلفرار، فعمَّت الكارثة، وغنم الصليبيُّون أقوات المُسلمين وأموالهم وأثاثهم ودوابهم وأسلحتهم.[108] وبِذلك لم يُحقِّق الصليبيُّون انتصارًا على سلاجقة الروم وحدهم، وإنما أيضًا على سلاجقة الشَّام وفارس، فعاد كربوقا إلى الموصل تحوطه خيبة الأمل، وعاد دقَّاق إلى دمشق يجُرُّ أذيال الفشل،[115] وأُسقط في يد قائد قلعة أنطاكية شمس الدولة بن ياغي سيان، فسلَّمها إلى بوهيموند.[107]

سُقُوط البارة ومعرَّة النُعمان
عدل
المقالة الرئيسة: مذبحة معرة النعمان

جانبٌ من أطلال مسجد ثُمَّ كنيسة البارة.
شجَّع سُقُوط أنطاكية وهزيمة كربوقا، الصليبيين، فاستأنفوا نشاطهم العسكري ضدَّ المناطق المُحيطة بحلب على شكل غاراتٍ صغيرة. وفي تلك الفترة، خرج عُمر والي أعزاز على سيِّده رضوان صاحب حلب، فأرسل الأخير عسكرًا حاصروا البلدة، فما كان من عُمر إلَّا أن استنجد بالصليبيين، فسار إليه ريموند الصنجيلي بِعسكرٍ كبير، ممَّا دفع جيش رضوان إلى فك الحصار والعودة من حيث أتى، ونهب الصليبيُّون ما قدروا عليه، وعادوا إلى أنطاكية، بعد ما اصطحب ريموند ابن عُمر رهينةً.[117] وقاد أحد فُرسان ريموند المذكور في شعبان 491هـ المُوافق فيه تمُّوز (يوليو) 1098م قُوَّةً عسكريَّةً صغيرة هاجمت معرَّة النُعمان وتلمنس بِهدف احتلالهما، وهي الجهات الواقعة إلى الجنوب الشرقي من أنطاكية، أي أنَّها داخلة ضمن نطاق مُمتلكات رضوان. ويظهر أنَّ هذا الفارس، المدعو «ريموند پليه الأليسيائي» (بالفرنسية: Raymond Pilet d'Alès)‏، كان على صلةٍ بالسُريان والأرمن من أهل تلك النواحي، فتلقَّى مُساعدةً من سُكَّان تلمنس المسيحيين ومن أهل المعرَّة، لكنَّ رضوان أسرع بِإرسال فرقة عسكريَّة حلبيَّة التقت بالصليبيين في مكانٍ بين تلمنس ومعرَّة النُعمان، وأسفر اللقاء عن هزيمةٍ واضحةٍ لِلفُرسان الغربيين فيما ثُبت مُشاتهم، فقُتل منهم أكثر من ألف مُقاتل حُملت رؤوسهم إلى داخل المعرَّة.[110][118]
وأغار ريموند الصنجيلي في شهر ذي الحجَّة المُوافق لِتشرين الأوَّل (أكتوبر) على البارة شرقيّ نهر العاصي، بعد أن استولى على كورة الروج. ويبدو أنَّ رضوان لم يبذل جُهدًا في الدفاع عن البارة، فاستسلم سُكَّانُها وسلُّموا مدينتهم لِلصليبيين لقاء الأمان، لكنَّ ريموند غدر بهم، فعاقب الرجال والنساء واستصفى أموالهم وقتل بعضهم وسبى آخرين، وحوَّل المسجد الجامع إلى كنيسة، ثُمَّ سار بمن معهُ من الجُند ومن انضمَّ إليه من الأرمن والسُريان نحو معرَّة النُعمان.[118][119] وفي 28 ذي الحجَّة المُوافق فيه 28 تشرين الثاني (نوڤمبر)، نزل الصليبيُّون على المعرَّة وحاصروها وأتلفوا مزروعاتها وقطعوا أشجارها، إلَّا أنَّهم فشلوا في اقتحامها، واستغاث أهلها برضوان صاحب حلب وجناح الدولة أمير حِمص، فلم يُغثهم أحد،[119] فاضطرُّوا إلى الاعتماد على قُوَّتهم الذاتيَّة. وهكذا جدَّ الأهالي في حرب الصليبيين حتَّى أدرك هؤلاء أنَّهم لن يقدروا على اقتحام المدينة إلَّا باستخدام آلات حصار، فعملوا عند ذلك بُرجًا من خشب يُوازي سور المدينة ووقع القتال عليه فلم يتمكنوا بدايةً من تحقيق نصر، لكن ما أن حلَّ الليل خاف قومٌ من المُسلمين وتداخلهم الفشل والهلع وظنُّوا أنَّهم إذا تحصَّنوا ببعض الدُور الكبار امتنعوا بها، فنزلوا من السور وأخلوا الموضع الذي كانوا يحفظونه، فرآهم طائفة أخرى ففعلوا كفعلهم فخلا مكانهم أيضًا من السور ولم تزل تتبع طائفة منهم التي تليها في النُزُول حتَّى خلا السُّور، فصعد الصليبيُّون إليه على السلالم وشقُّوا طريقهم إلى داخل المدينة واستباحوها، وذلك ليلة الأحد 24 مُحرَّم 492هـ المُوافق فيه 21 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1098م.[119][120] واضطرَّ السُكَّان إلى الاستسلام مُقابل منحهم الأمان، فأجابهم الصليبيُّون إلى ذلك بدايةً، وفرضوا مبلغًا من المال على كُلِّ دار، فاطمأنَّ الناس. غير أنَّ الصليبيين غدروا بهم في اليوم التالي، فاستلُّوا سُيُوفهم وانقضوا على الأهالي وأخذوا يُقتِّلونهم كيفما وجدوهم، فوقعت مذبحة رهيبة دامت ثلاثة أيَّامٍ قُتل فيها أكثر من عشرين ألف رجُلٍ وامرأةٍ وصبيٍّ بحسب تقدير ابن العديم، ونُهب البلد نهبًا فاحشًا، ولم يسلم إلَّا القليل من أهله، اقتيد بعضهم أسارى وهلك بعضهم الآخر من العطش بعدما منع الصليبيُّون عنهم الماء.[119] وتنص المصادر الغربيَّة، بما فيها الصليبيَّة، على أمرٍ لم تتطرَّق إليه المصادر الإسلاميَّة رُغم أهميَّته، وهي أنَّ الجُنُود الصليبيُّون بلغت بهم الوحشيَّة مبلغًا غير معهود، فأكلوا لُحُوم قتلى المُسلمين، وقيل أنَّ دافعهم إلى ذلك كان الجوع وقلَّة الأقوات، وقيل شدَّة غيظهم ما أن اكتشفوا أنَّ المعرَّة لم تكن مدينةُ غنيَّةً كما تصوَّروا، وليس فيها من الغنائم ما يسدُّ رمقهم.[la 71][la 72] وأنشد ابن الوردي يصف هذه المذبحة، فقال:[121]
مَعَرَّةُ الأَذكِيَاءِ قَد حَرَدَت عَنَّا وَحقُّ المَلِيحَةِ الحَرَدِ
فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ كَانَ مَوْعِدُهُم فَمَا نَجَى مِن خَمِيسِهِم أَحَدِ
تأسيس إمارة أنطاكية
عدل

خريطة تُصوِّرُ الحُدُود التقريبيَّة لِإمارة أنطاكيَّة اللاتينيَّة (في سنة 1135م).
يُحتملُ أنَّ الغزوات التي قام بها الصليبيُّون بُعيد سُقُوط أنطاكية، بما فيها احتلال حارم ومُعرَّة النُعمان، لم تكن الغاية منها إلَّا إثبات وُجُودهم وتأمين المُؤن حتَّى يحين الوقت لِلزحف نحو بيت المقدس، ولم تلبث أن تهيَّأت الظُرُوف لِذلك الزحف بانقضاء فصل الصيف واعتدال درجة الحرارة. وكان الأُمراء الصليبيُّون قد أقسموا بعد هزيمة كربوقا أن يسيروا في شهر تشرين الأوَّل (أكتوبر) إلى بيت المقدس، فاجتمعوا في 3 ذي الحجَّة المُوافق فيه 1 تشرين الثاني (نوڤمبر) في أنطاكية لِلتشاور وقرَّروا في 7 ذي الحجَّة المُوافق فيه 5 تشرين الثاني (نوڤمبر) استئناف الزحف نحو هدفهم الأسمى.[122] أثار قرار الصليبيين هذا وضع أنطاكية القانوني، لا سيَّما وأنَّ بوهيموند ظلَّ مُتمسكًا بِحقِّه في السيطرة على كامل المدينة، في حين نازعه ريموند، علمًا أنَّ الأوَّل كان يُسيطر على ثلاثة أرباع المدينة إضافةً إلى القلعة، في حين كان الآخر يُسيطر على الجسر المنيع وقصر ياغي سيان، كما كان لِلإمبراطوريَّة البيزنطيَّة حُقُوقٌ في أنطاكية وفقًا لِلاتفاقيَّة المعقودة بين الإمبراطور ألكسيوس كومنين وزُعماء الحملة الصليبيَّة في سنة 490هـ المُوافقة لِسنة 1097م، بِوصفها كانت سابقًا من أملاك الروم.[123][124] وعندما أدرك بوهيموند أنَّ البيزنطيين لن يتنازلوا عن حقِّهم في أنطاكية؛ قرَّر السيطرة عليها رُغم إرادة الإمبراطور وخلق واقعٍ جديد، ومن جهته، ساند ريموند حق الإمبراطور البيزنطي في امتلاك أنطاكية من واقع احترام الاتفاقيَّة المذكورة. وبِذلك أدَّت مُشكلة حُكم المدينة إلى تأزيم الموقف بين الصليبيين والبيزنطيين إضافةً إلى زُعماء الحملة الصليبيَّة أنفُسهم.[124] وطال النقاش بين الزُعماء الصليبيين حول مصير أنطاكية، ورفض ريموند التنازل عن المراكز التي كان يحتلَّها، وأخذ في تحصينها، فاستاء الجُند وبقيَّة الفُرسان وهدَّدوا بِتدمير أسوار المدينة وتركها مكشوفةً أمام المُسلمين والبيزنطيين ثُمَّ مُغادرتها إلى بيت المقدس.[122]

أثار هذا التهديد مخاوف كُلًا من بوهيموند وريموند فضلًا عن بقيَّة الأُمراء الذين خشوا على مصيرهم وعلى مُستقبل الحملة، لِذلك بدأت المساعي الجديَّة لِلتوصُّل إلى حلٍّ لِتلك الأزمة. وعقد الزُعماء الصليبيُّون اجتماعاتٍ عدَّة في كنيسة القدِّيس بُطرس بِالمدينة لِحسم النزاع بينهما، فعرض بوهيموند على المُجتمعين الاتفاق الذي أبرمه معهم والذي ينُص على تنازلهم عن أنطاكية له، في حين أطلعه ريموند على نص اليمين الذي أقسموه بين يديّ الإمبراطور ألكسيوس كومنين بناءً على نصيحة بوهيموند نفسه، ولكنَّهم لم يصلوا إلى نتيجةٍ إيجابيَّة. ويبدو أنَّ ريموند أدرك أخيرًا أنَّ القضيَّة طال أمدها، وأنَّهُ لا بُدَّ من وضع حدٍ بسُرعةٍ لها، فدعا الأُمراء إلى الاجتماع به في الروج، وعرض عليهم مبالغ من المال لِيستقطبهم إلى جانبه ويعترفوا به زعيمًا أوحد لِلصليبيين في الشرق، إلَّا أنَّهُ فشل في ذلك، فقد رفض الأُمراء طُروحاته، وعمَّ الاستياء في المُقابل جميع صُفُوف الجُند والفُرسان، فأرغموه على المسير بأن دمَّروا أسوار معرَّة النُعمان، فأدرك عندئذٍ أنَّهُ لم يعد ثمَّة تأجيلٍ وإرجاء، فخرج من معرَّة النُعمان في 17 صفر 492هـ المُوافق فيه 13 كانون الثاني (يناير) 1099م على رأس قُوَّاته مُعلنًا الزحف إلى بيت المقدس، وتبعه بقيَّة الصليبيين باستثناء بوهيموند الذي عاد إلى أنطاكية، واختار البقاء فيها لِيُعلن تأسيس إمارة أنطاكية اللاتينيَّة، أمَّا معرَّة النُعمان فتقرَّر منحها لِأُسقُف البارة.[125][126] وبِهذا وُلدت ثاني الدُويلات الصليبيَّة في المشرق العربي.

سوزان عبدالهادى يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://www-alolemy-com.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 1696
تاريخ التسجيل : 26/04/2017
العمر : 37
الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية

الحملة الصليبيَّة الأولى  2 Empty
مُساهمةموضوع: تابع الحملة الصليبية الأولى 2   الحملة الصليبيَّة الأولى  2 Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 07, 2022 9:33 pm


توسُّع الفاطميين في جنوب الشَّام
عدل
استغلَّ الوزير الفاطمي الأفضل شاهنشاه انهماك السلاجقة بِالتصدي لِلصليبيين في شماليّ الشَّام، فنهض لِاستعادة نُفُوذ الفاطميين في جنوبها ظنًّا منه أنَّهُ بات من اليسير تحقيق مكاسب سريعة على حساب السلاجقة، وكان قد استولى على صور في سنة 490هـ المُوافقة لِسنة 1097م، بعد أن أعلن واليها «كتيلة» الخُرُوج على الحُكم الفاطمي، فحاصرها حصارًا عنيفًا وأخذها بِالسيف وقبض على واليها المذكور وأرسله إلى مصر حيثُ أُعدم.[127] ولم يُحاول الأفضل مُهاجمة بيت المقدس آنذاك، وترك ذلك إلى فُرصةٍ أُخرى. والحقيقة أنَّ الفاطميين لم يفهموا الحركة الصليبيَّة على حقيقتها - كما أُسلف - فرحَّبوا بِتقدُّم الصليبيين في الأناضول والشَّام على حساب السلاجقة؛ ووجدوا في ذلك فُرصةً طيِّبةً لِاسترداد حُقُوقهم الضائعة في فلسطين، بل إنَّ ابن الأثير لم يتردد في اتهام الفاطميين بأنَّهم هُم الذين دعوا الصليبيين إلى الشَّام لِيُساعدونهم ضدَّ السلاجقة، فقال: «وَقِيلَ إِنَّ أَصْحَابَ مِصْرَ مِنْ اَلْعَلَوِيِّينَ لِمَا رَأَوْا قُوَّةُ اَلدَّوْلَةِ اَلسَّلْجُوقِيَّةِ وَتَمَكُّنِهَا وَاسْتِيلَاءَهَا عَلَى بِلَادِ اَلشَّامِ إِلَى غَزَّةَ وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مِصْرَ وِلَايَةً أُخْرَى تَمْنَعُهُمْ وَدُخُولُ اَلْأَقَسِيسْ إِلَى مِصْرَ وَحَصْرِهَا فَخَافُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى اَلْفِرِنْجِ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اَلْخُرُوجِ إِلَى اَلشَّامِ لِيَمْلِكُوهُ وَيَكُونَ بَيْنُهُمْ وَبَيْنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَالله أَعْلَمَ».[102] وبِعبارةٍ أُخرى فإنَّ الفاطميين لم يروا في الانتصارات التي أحرزها الصليبيُّون في ضورليم والرُّها وأنطاكية كارثةً عامَّةً حلَّت بالمُسلمين، وإنما وجدوا فيها أُمنية عزيزة هي تخليص المشرق العربي من سيطرة السلاجقة السُنيين، ورُبَّما اعتقدوا وصوَّروا هذه الحملة صورةً عرقيَّة، على أنَّها ساعة انتقام العرب عُمومًا والشيعة خُصوصًا، من الأتراك الذين سادوا المنطقة قُرابة نصف قرنٍ من الزمان.[128]

وليس من دليلٍ أقوى على جهل الفاطميين بِحقيقة الحركة الصليبيَّة إلَّا مُحاولتهم التحالف مع الغُزاة الغربيين ضدَّ السلاجقة واقتسامهم الديار الشَّاميَّة بينهما بُعيد انتصارهم على العدُوِّ المُشترك، بحيثُ يكون القسم الجنوبي - أي فلسطين - لِلفاطميين، كما أُسلف. فلم يُدرك هؤلاء أنَّ الصليبيين لم يتركوا بلادهم في غرب أوروپَّا ويتحمَّلوا ما تحمَّلوه في الشرق إلَّا لاستخلاص الديار المُقدَّسة في فلسطين. هذا وكان الصليبيُّون قد أظهروا مهارةً سياسيَّةً ملحوظةً حتَّى ذلك الوقت تجاه الفاطميين، فاختاروا أن يتركوهم على عماهم ولم يُفصحوا لهم عن نواياهم تجاه بيت المقدس، بل أرسل الصليبيُّون سفارةً إلى القاهرة - ردًّا على سفارة الأفضل - تُؤكِّد التعاون بين الطرفين لِلقضاء على السلاجقة.[128] وعبَّر بعض المُؤرِّخين المُسلمين المُتأخرين عن عجبهم من عدم تصدِّي الفاطميين لِلصليبيين وتعاونهم مع سائر المُسلمين في ذلك، فقال ابن تغري بردي في النُجُوم الزاهرة: «…وَلَمْ يَنْهَضْ اَلْأَفْضَل بِإِخْرَاجِ عَسَاكِرَ مِصْرَ. وَمَا أَدْرِي مَا كَانَ اَلسَّبَبُ فِي عَدَمِ إِخْرَاجِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى اَلْمَالِ وَالرِّجَالِ…».[129]

وفي شهر رمضان 491هـ المُوافق لِشهر آب (أغسطس) 1098م، رأى الأفضل أنَّ الفُرصة حانت لِيستعيد بيت المقدس، لا سيَّما وأنَّ الصليبيين كانوا ما يزالون مُتعثرين في أنطاكية، فخرج على رأس جيشٍ كثيف واستطاع استرداد بيت المقدس بالأمان من سُقمان بن أرتق وأخيه إيلغازي، فأحسن إليهما ومن كان معهما وأجزل لهم العطاء وسمح لهم بِالخُروج من المدينة إلى حيث شاءا، فاتجه الأخوان نحو دمشق ومنها إلى الجزيرة الفُراتيَّة حيثُ أسَّسا إمارةً لِبني أرتق هُناك.[130] وهكذا غدت فلسطين جُزءًا من الدولة الفاطميَّة مُجددًا، ولم تكد تنتهي سنة 491هـ المُوافقة لِسنة 1098م إلَّا وكانت حُدُود تلك الدولة قد امتدَّت إلى نهر الكلب شمالًا ومجرى الأُردُن شرقًا.[128] ولم يلبث أن صُدم الفاطميُّون بِالحقيقة المُرَّة لمَّا عرفوا بِزحف الصليبيين جنوبًا، فأدرك الأفضل أنَّ بيت المقدس هو هدفهم الأساسي، فأرسل لهم سفارةً وصلتهم قُرب طرابُلس، تحملُ الهدايا النفيسة والأموال الضخمة لِكُلِّ قائدٍ من قادة الحملة؛ كما تحمل لهم عرضًا من الخليفة الفاطمي خُلاصته أن يُسهِّل لهم الحج على شكل مجموعاتٍ من مائتيّ أو ثلاثُمائة حاج بِشرط ألَّا يكونوا مُسلَّحين. لكنَّ الصليبيين ردُّوا عليهم بِأنَّهم سيتمكنون من الحج فعلًا، ولكن بِمعونة الله.[128]

الزحف الصليبي نحو بيت المقدس
عدل
سعي صغار الأُمراء المُسلمين لِمُحالفة الصليبيين
عدل

خريطة تُصوِّر الحُدُود التقريبَّة لِلإمارات العربيَّة الشَّاميَّة المُختلفة قُبيل الحملة الصليبيَّة الأولى وخلال مُجرياتها.
اتَّجه ريموند الصنجيلي على رأس الصليبيين من معرَّة النُعمان إلى كفرطاب الواقعة على بُعد عشرين كيلومتر جنوبًا، ومكث فيها حتَّى 20 صفر 492هـ المُوافق فيه 16 كانون الثاني (يناير) 1099م، وفي تلك الفترة لحق به كُلًّا من روبرت كورتز وتانكرد.[131][132] وبِوُصُول الصليبيين إلى تلك المنطقة بدأت الاتصالات بينهم وبين صغار الأُمراء المُسلمين الذين انتهزوا فُرصة انحلال قوى السلاجقة لِيُؤكِّدوا استقلالهم ببعض المُدُن مثل حِمص وطرابُلس وشيزر، وكان أبرز هؤلاء: بنو مُنقذ أصحاب شيزر والبلاد المُمتدَّة من نهر العاصي إلى الساحل، وبنو عمَّار أصحاب طرابُلس وكُل البلاد المُمتدَّة من أواسط جبل لُبنان إلى حُدُود الدولة الفاطميَّة. وجديرٌ بِالذكر أنَّ أولئك الأُمراء كان مسلكهم تجاه الصليبيين مُختلفًا تمامًا عن مسلك السلاجقة الذين لم يعرفوا سوى السيف، في حين أدرك الأُمراء العرب في الشَّام خُطُورة الموقف وعدم وُجُود قُوَّة إسلاميَّة كُبرى قُربهم تحميهم من ذلك الخطر، فآثروا اتباع سياسةً مرنةً استهدفت الاتفاق مع الصليبيين وقُبُول ما تقدَّموا به من عُرُوض، حتَّى أنَّ أمير حماة، وهو صهر رضوان، وجناح الدولة حُسين أمير حِمص اللذين قاتلا إلى جانب كربوقا، تخلَّيا عن المُقاومة.[133][134] وبادر بعض هؤلاء الأُمراء بِمُراسلة الصليبيين وإظهار الود لهم، كما فعل الأمير عز الدين أبو العساكر سُلطان بن علي بن مُنقذ (عم الفارس الشهير أُسامة بن مُنقذ)، الذي أرسل إلى ريموند الصنجيلي في كفرطاب يتعهَّد لهُ بألَّا يعترض طريق الصليبيين عند اختراقهم بلاده، وأن يُقدِّم لهم ما يحتاجون إليه من غذاءٍ وميرة.[135] واطلع الصليبيُّون على نُقطة ضعف الأمير وكيف يتمكَّنون من السيطرة عليه وعلى ما يملكه، فحاولوا إرهابه والنيل منه لِيحصلوا على ما يُريدون، فساروا إلى شيزر وخيَّموا على مقرُبةٍ منها، فانزعج أبو العساكر من ذلك وأرسل إليهم مُحاولًا التهادن معهم، فبعث إليهم أدلَّاء ليُعرِّفُوهم على الطُرُق ويُجنِّبونهم مشقَّة تضليل الطُرُق في إمارته، ودلَّهم على بعض المناطق والقلاع ليتوجَّهوا إليها، فذهبوا لبعض المناطق ونهبوا منها أعدادًا كبيرةً من الأغنام وكميَّات هائلة من القمح وبعض السلع التي يحتاجونها، وباعوا الفائض منها في شيزر وحماة واشتروا بثمنها نحو ألف حصان، ممَّا أنعشهم وقوَّى عزائمهم.[135]
وقرَّر الصليبيُّون عند شيزر، نُزولًا على رأي تانكرد، أن يسلكوا الطريق الداخلي إلى بيت المقدس بدلًا من الطريق الساحلي الذي كان من رأي ريموند أنَّهُ يُمكِّن الحملة من الاتصال بِأنطاكية، والحُصُول على الامدادات والمُؤن من السُلطات البيزنطيَّة في قبرص، نظرًا لِما يربطه بها من علاقاتٍ وديَّة، وذلك بِفضل مُساعدة الأساطيل الغربيَّة التي اتخذت السُويديَّة واللاذقيَّة قواعد لها. ورأى تانكرد أنَّهُ إذا سلك الصليبيُّون طريق الساحل الطويل المُتعرِّج، فهُم مُضطرُّون إلى الاستيلاء على المُدُن الساحليَّة مثل جبلة وطرطوس وطرابُلس وبيروت وصيدا وعكَّا ما يُشكِّل عامل تأخيرٍ لهم وبِخاصَّةٍ أنَّهم قد يُصادفون مُقاومةً من جانب السُكَّان، وهُم مُضطرُّون لِادِّخار قُوَّتهم حتَّى الوُصُول إلى بيت المقدس، والتي لم تكن تتجاوز آنذاك ألف فارسٍ وخمسة آلاف راجل، هذا مع الاقتراب بين حينٍ وآخر من ساحل البحر كُلَّما استدعت ظُرُوف التموين ذلك.[133] استأنف الصليبيُّون زحفهم وفق الخطَّة التي وضعها تانكرد، فمرُّوا بِمصياف، فخرج إليهم أميرها وعقد معهم اتفاقيَّة سلام، ثُمَّ زحفوا إلى بعرين ثُمَّ إلى الرفينة التي مكثوا فيها ثلاثة أيَّام قبل أن يهبطوا إلى سهل البُقيعة الذي يتحكَّم بِحصن الأكراد المشهور بِضخامته، وقد احتمى سُكَّان تلك المنطقة بِالحصن، فحاصرهم الصليبيُّون حتَّى سقط الحصن في أيديهم يوم 3 ربيع الأوَّل المُوافق فيه 29 كانون الثاني (يناير).[136][137] وفي الوقت الذي كان فيه ريموند في حصن الأكراد قدمت إليه سفارة من طرف جناح الدولة حُسين بن ملاعب أمير حِمص مُحمَّلة بالهدايا ومُعلنةً ولاء الأمير المذكور، وذلك حتَّى لا يتعرَّض الصليبيُّون لِإمارته،[137] ثُمَّ تلتها سفارةٌ أُخرى من قِبل أمير طرابُلس فخر المُلك أبي علي عمَّار بن مُحمَّد الذي استبق الأُمُور لِدفع الخطر عن إمارته وتفادي القتال. وأبدى صاحب طرابُلس هذا استعداده لِلتشاور والتنسيق مع ريموند في التدابير اللازمة لِمُرور الحملة الصليبيَّة عبر إمارته، وطلب منهُ أن يبعث بِمندوبين من قِبله لِأجل هذه الغاية، على أن يحملوا معهم أعلام ورايات قُمسيَّة طولوشة وصنجيل لِيرفعها على أسوار المدينة كدليلٍ على حُسن نيَّته.[137]

سُقُوط بعض المُدُن الساحليَّة الشَّاميَّة
عدل

أطلال قلعة عرقة القديمة كما بدت سنة 2009م. تقع اليوم ضمن مُحافظة عكَّار في لُبنان. صمدت هذه القلعة في وجه الصليبيين سنة 1099م، رُغم نقبهم عدَّة ثُقُوبٍ في أسوارها.
وافق القائد الصليبي على طلب أمير طرابُلس لِيختصر الوقت وهو في طريقه إلى بيت المقدس، فأرسل سفارةً إلى المدينة لِلتفاوض في شُرُوط الصُلح، وشاهد أعضاؤها مدى عِظم ثروة طرابُلس فتملَّكتهم الدهشة، فلمَّا عادوا إلى مُعسكرهم أخبروا ريموند بما رأوا، وأشاروا عليه بِالتشدُّد مع أميرها لأنَّهُ لن يتردد في عقد اتفاقٍ بِأي ثمنٍ لِيضمن السلام لِعاصمة إمارته،[la 73] وأشاروا على ريموند أن يُهاجم عرقة التابعة لِإمارة طرابُلس، كنوعٍ من الضغط على أميرها حتَّى يزيد من قيمة الجزية التي تعهَّد بِدفعها لِلصليبيين. وسُرعان ما صادفت هذه الفكرة قبولًا حسنًا، لا سيَّما وأنَّ عرقة نفسها تتمتع بِأهميَّةٍ كبيرة لِوُقُوعها وسط إقليمٍ غنيٍّ بِمياهه وثروتها الطبيعيَّة. وفي الوقت الذي اتجه فيه جُزءٌ من الجيش الصليبي لِحصار عرقة، اتجه فريقٌ آخر إلى طرطوس واستولوا عليها، ممَّا سهَّل تموينهم بِواسطة الأساطيل الإيطاليَّة والبيزنطيَّة. هذا فضلًا عن أنَّ الاستيلاء على طرطوس ساعد الصليبيين بعد قليلٍ في الاستيلاء على مرقية، إلى الشمال منها.[134] على أنَّ الصليبيين لم يقنعوا بِذلك، وإنَّما حدث في الوقت الذي أخذ ريموند ورجاله يُحاصرون عرقة، أن اتجه گودفري البويني وروبرت الفلمنكي لِحصار جبلة، التي كان يُفترض أن تكون هي الأُخرى تابعةً لِأمير طرابُلس، ولكنَّ القاضي أبو محمود عُبيد الله بن منصور استطاع أن يستقلَّ بها عن نُفُوذ بني عمَّار. وانتهى حصار جبلة بِعقد اتفاقٍ بين أبي محمود والصليبيين تعهَّد فيه الأوَّل بِدفع جزيةٍ من المال والخيل. وبعد ذلك اتجه گودفري وروبرت إلى عرقة تلبيةً لِنداء ريموند الذي طلب مُساعدتهما.[134] وعلى الرُغم من أنَّ الصليبيين جمعوا قُوَّاتهم أمام عرقة في 19 ربيع الآخر 492هـ المُوافق فيه 14 آذار (مارس) 1099م، وعلى الرُغم من سُهُولة تموينهم عن طريق البحر ووفرة ما حصلوا عليه من خيراتٍ في إمارة طرابُلس، إلَّا أنَّ حصار عرقة طال دون نتيجة،[134] ويذكر كُلًا من ابن الأثير وابن العبري أنَّ هذا الحصار دام أربعة أشهر نقب خلالها الصليبيُّون أسوار المدينة، ولكنَّها صمدت في وجههم ولم يقدروا عليها.[109][138]
ولم يلبث أن اعترض گودفري على الاستمرار في حصار عرقة، ونادى بِأنَّ الوقت الذي أضاعه الصليبيُّون في تلك العمليَّة الحربيَّة لا يُعادل بِأيِّ حالٍ من الأحوال الفائدة المرجُوَّة من وراء الاستيلاء على تلك المدينة الصغيرة. لِذلك أصرَّ گودفري على أن يترك الصليبيُّون حصار عرقة في الحال لِيُواصلوا زحفهم على بيت المقدس.[134] واضطرَّ ريموند أن يستجيب لِضُغُوط غريمه وباقي القادة، ففكَّ الحصار عن عرقة على مضض، ذلك أنَّهُ كان طامحًا بِإقامة دولة لِنفسه على ساحل الشَّام كما فعل بوهيموند في أنطاكية. ومن الثابت أنَّ ريموند ندم أشدَّ الندم على استعانته بِگودفري وروبرت واستحضارهما من جبلة لِمُعاونته، فحتَّى ذلك الوقت - ومُنذُ أن زحف الصليبيُّون من أنطاكية - كان ريموند هو زعيم الصليبيين في زحفهم على بيت المقدس، أمَّا وقد حضر گودفري فإنَّ نُفُوذه أخذ يطغى على نُفُوذ ريموند، وانضمَّ إلى جانبه تانكرد وروبرت، ممَّا أضرَّ ضررًا بليغًا بِمركز ريموند ومكانته.[139] ولا شكَّ في أنَّ إخفاق الصليبيين أمام عرقة بعد ذلك الحصار الطويل، وما ظهر في صُفُوفهم من خلافاتٍ وتيَّاراتٍ مُتعارضة أثناء الحصار، كُلُّ ذلك أدَّى إلى تقوية مركز أمير طرابُلس الذي سارع إلى سحب عُرُوضه السابقة على الصليبيين،[139] فسار إليه هؤلاء ونزلوا عند أسوار المدينة يوم الجُمُعة 19 جُمادى الآخرة 492هـ المُوافق فيه 13 أيَّار (مايو) 1099م، ومكثوا في ربضها ثلاثة أيَّام، فاضطرَّ ابن عمَّار أن يركن إلى مُسالمة الغُزاة مُجددًا، فأطلق سراح قُرابة ثلاثمائة صليبي كان قد أسرهم في معارك سابقة، وأعطى ريموند خمسة عشر بيزنطًا ذهبيًّا وخمسة عشر حصانًا ثمينًا، إضافةً إلى عددٍ وافرٍ من الخُيُول والحُمُر والخُبز وشتَّى السلع الضروريَّة.[140]

وفي يوم الإثنين 22 جُمادى الآخرة 492هـ المُوافق فيه 15 أيَّار (مايو) 1099م، غادر الصليبيُّون طرابُلس إلى بيت المقدس سالكين الطريق الساحليّ عبر القلمون وأنف الحجر والبترون وجُبيل،[141] وساعدهم أدلَّاء موارنة من جبل لُبنان، فكانت تلك المرَّة الأولى التي كُسرت فيها العُزلة الإقليميَّة لِهذه الطائفة المسيحيَّة مُنذُ أن لجأ أفرادها إلى جبل لُبنان في القرن السادس الميلادي، إذ كانت وُفُودهم قد هبطت من موطنهم الشاهق حول بلدة بشرِّي أثناء حصار الصليبيين لِعرقة، لتُهنِّئهم وتعرض عليهم المُساعدة،[142] وبحسب المُؤرِّخ اللُبناني الدكتور فؤاد أفرام البُستاني، فإنَّ الموارنة أمدُّوا الصليبيين بِثلاثين ألف نبَّال «أجمع الفرنجة على الإعجاب بِشجاعتهم ومهارتهم»،[143] ومُنذُ تلك الفترة نال الموارنة الحُظوة والدعوة لدى الصليبيين، فقدَّموهم على من حالفهم من المُسلمين وعلى جميع الطوائف المسيحيَّة الشرقيَّة الأُخرى.[142] ووصل الصليبيُّون في 25 جُمادى الآخرة المُوافق 19 أيَّار (مايو) إلى الحُدُود الفاطميَّة عند نهر الكلب، ولمَّا اقتربوا من بيروت بادر سُكَّانها، الذين خشوا القتل والدمار، إلى مُسالمة الغُزاة، فبذلوا لهم الهدايا والأموال وسمحوا لهم بِاجتياز بلادهم شرط ألَّا يُنزلوا الضرر بِالأشجار المُثمرة والكُرُوم والغلال، وقبل القادة الصليبيُّون هذه الشُرُوط.[144] وبعد استراحة ليلةٍ واحدة، انطلق الصليبيُّون إلى صيدا فوصلوها يوم 26 جُمادى الآخرة المُوافق 20 أيَّار (مايو) وأقاموا مُعسكرهم عند شاطئ نهر الأوَّلي شمالي المدينة، فهاجمتهم حاميتها وقاتلتهم، لكنَّهم ردُّوها، وانتقموا من أهل صيدا بأن أتلفوا المزارع المُجاورة واعتدوا على الضياع القريبة، ثُمَّ تابعوا زحفهم عابرين الصرفند وصور حيثُ انضمَّ إليهم بعض الفُرسان القادمين من الرُّها وأنطاكية. وفي 29 جُمادى الآخرة المُوافق 23 أيَّار (مايو) عبر الصليبيُّون مُرتفع رأس الناقورة في طريقهم إلى عكَّا، فبلغوا ظاهرها في 1 رجب المُوافق 24 أيَّار (مايو)، فصالحهم أميرها وقدَّم لهم الهدايا والمُؤن، كما تعهَّد بالدُخُول في طاعتهم إذا استولوا على بيت المقدس.[144] ومضى الصليبيُّون في تقدُّمهم فمرُّوا بِقيسارية ثُمَّ بِأرسوف، ولم يُحاولوا بعد ذلك التوجُّه إلى يافا وإنَّما اختاروا أن يتركوا الطريق الساحلي ويشُقُّوا طريقهم إلى داخل البلاد مُباشرةً نحو بيت المقدس.[144]

حصار وسُقُوط بيت المقدس
عدل
المقالة الرئيسة: حصار القدس (1099)
حرص الصليبيُّون على أن لا ينقطع الطريق بينهم وبين البحر أثناء زحفهم نحو بيت المقدس، لِذلك احتلُّوا الرملة بعد أن أخلاها المُسلمون وتركوا فيها حاميةً صغيرة،[144] وعقدوا فيها مجلسًا للحرب في الفترة المُمتدَّة بين 11 و14 رجب المُوافقة لما بين 3 و6 حُزيران (يونيو)، ناقشوا فيه مسائل عدَّة، منها اقتراحٌ بِأن يبدأوا بِمُهاجمة الفاطميين في عقر دارهم، إذ أنَّ من الحماقة مُهاجمة بيت المقدس في ذُروة الصيف، وأنَّ من الأفضل أن يتقدَّمُوا لِمُهاجمة مركز الثقل الإسلامي الذي هو مصر، لأنَّ مفاتيح بيت المقدس موجودة فعلًا في القاهرة، وأنَّهُ إذا أراد الصليبيُّون أن ينعموا بِحياةٍ آمنةٍ مُستقرَّة في بيت المقدس، فعليهم أن يُؤمِّنوا على أنفُسهم بِالاستيلاء على الوجه البحري لِلديار المصريَّة، غير أنَّ هذا الاقتراح لقي الرفض من مُعظم القادة، وتقرَّر الزحف مُباشرةً إلى بيت المقدس.[la 74]
وصل الصليبيُّون إلى بيت المقدس يوم الثُلاثاء 15 رجب 492هـ المُوافق فيه 7 حُزيران (يونيو) 1099م، وحاصروها. تولَّى الدفاع عن المدينة أميرها الفاطمي افتخار الدولة وحامية قويَّة من عساكر عربيَّة وسودانيَّة من مُشاةٍ ونبَّالين،[la 75] يُضاف إليهم قُرابة أربعمائة فارس[la 76] وأربعة عشر منجنيقًا.[la 77] أضف إلى ذلك، كانت المدينة محميَّة بِأسوارٍ يصل طولها إلى أربعة كيلومترات، وسُمكُها لِثلاثة أمتار، وارتفاعها لِخمسة عشر مترًا، وعلى كُلِّ بابٍ من أبوابها الخمسة بُرجان مشحونان بالجُند.[la 78] ولمَّا ترامى لِافتخار الدولة نبأ اقتراب الصليبيين اتَّخذ إجراءاتٍ احتياطيَّةٍ عدَّة إضافيَّة لِمُواجهة الموقف، فطمر ما يقع خارج المدينة من آبارٍ أو سمَّها، وساق قُطعان الماشية إلى أماكن آمنة، وملأ مخازنه بالمُؤن وصهاريجه بِالماء بما يكفيه مُدَّةً طويلة، وطرد المسيحيين من أهل المدينة لِسببين أساسيين: خوفًا من ميلهم لِلصليبيين ومُعاونتهم إيَّاهم، ولِعدم إمكانه الاعتماد عليهم في القتال لِما تقرَّر من منعهم من حمل السلاح. كذلك اهتمَّ بِتقوية التحصينات والتأكُّد من سلامة الأسوار ودعَّمها بِأكياسٍ مملوءةٍ بالقُطن وشَحَنَ الأبراج بِالمُقاتلة والسلاح، كما أرسل إلى مصر يطلب النجدة.[145][146][la 79] ولم يكد الصليبيُّون يشرعون في حصار المدينة حتَّى أخذوا يُهاجمونها مُعتمدين على عددٍ كبيرٍ من آلات الحصار والهدم، ويبدو أنَّهم افتقدوا إلى القُوَّات الكافية لِتطويقها، لِذلك ركَّزوا قُوَّاتهم أمام الأماكن التي تُقرِّبهم من الأسوار. فتمركز روبرت كورتز النورماني على امتداد السور الشمالي تجاه باب الساهرة، واتخذ روبرت الفلمنكي موقعه إلى يمينة تجاه باب دمشق، وعسكر گودفري في البُقعة التي تُواجه الرُكن الشمالي الغربي لِلمدينة حتَّى باب يافا، وانضمَّ إليه تانكرد عندما قدم من بيت لحم، واستقرَّ ريموند إلى الجنوب منهما قبل أن ينتقل إلى جبل صهيون بعد أن اكتشف أنَّ الوادي يجعله بعيدًا عن الأسوار، وكان القطاعان الشرقي والجنوبي الشرقي مكشوفين لم يحرسهما أحد.[144][147]


الصليبيُّون يجرُّون آلات حصارهم صوب أسوار بيت المقدس.

خريطة تُصوِّرُ موضع الصليبيين عند حصار بيت المقدس وتبديلهم مواقعهم بعد إنشائهم أدوات الحصار اللازمة.
واجهت المُحاصرين في بادئ الأمر مُشكلاتٌ عدَّة حالت بينهم وبين الاستيلاء على المدينة فورًا، فقد صمد المُسلمون بِقيادة افتخار الدولة وتمكَّنوا من صدِّ المُحاولات الصليبيَّة المُتكررة لِاقتحام بيت المقدس، وعجز الغُزاة عن تأمين المياه نتيجة ما اتخذه افتخار الدولة من تدابير كانت ناجحة وقويَّة الأثر، كما أخذت مؤنهم في النفاذ، وانتشرت شائعة بينهم تُفيد أنَّ جيشًا فاطميًّا كبيرًا قد خرج من القاهرة وهو في طريقه لإنقاذ المدينة. أضف إلى ذلك، تجدَّد النزاع بين قادة الحملة حول مصير بيت المقدس وملكيَّة بعض الأماكن المُهمَّة الأُخرى مثل بيت لحم، وقد تمسَّك تانكرد بِحقِّه في مُلكيَّتها بعد أن كان قد استولى عليها.[146] وأدرك الصليبيُّون بعد ذلك أنَّهم لن يستطيعوا الصُمُود لِحصارٍ طويل، وينبغي عليهم القيام بِهُجُومٍ فوريّ على المدينة والاستيلاء عليها، وفعلًا شنُّوا هُجُومًا في 20 رجب المُوافق فيه 12 حُزيران (يونيو) على أسوارها ونجحوا في التغلُّب على الأسوار الشماليَّة الخارجيَّة، غير أنَّهُ لم يتوافر لديهم من السلالم ما يُتيح لهم تسلُّق الأسوار في جهاتٍ عديدةٍ في آنٍ واحد، ولمَّا تبيَّن لهم أنَّ مُحاولتهم ليست مُجدية قرَّروا الانسحاب وعدم القيام بِهُجُومٍ آخر ما لم تتوفَّر لهم المجانيق والسلالم، لكنَّهم افتقروا إلى المواد التي يصنعون منها هذه الآلات، على أنَّهُ حدث أن جاءتهم مُساعدة من البحر. ففي 25 رجب المُوافق فيه 17 حُزيران (يونيو) رست في مرفأ يافا الفاطمي المهجور سفينتان جنويَّتان مُحمَّلتان بِالزاد والعتاد والحبال والمسامير والأخشاب وغيرها ممَّا يتطلَّبه العمل لِصناعة أدوات الحصار، وكانتا بِقيادة أمير البحر الجنوي «وليم السكِّير» (بالإيطالية: Guglielmo Embriaco)‏ و«گاستون الرابع ڤيكونت بيارن» (بالبشكنشيَّة: Gaston IV.a Biarnokoa)، فأفرغ الصليبيُّون حُمُولتهما إلى البر وسط مُناوشاتٍ مع قُوَّةٍ فاطميَّةٍ قدمت من عسقلان، ونقلوها إلى المُعسكر الصليبي عند بيت المقدس الذي تحوَّل إلى خليَّة عملٍ لِبناء الأبراج والسلالم اللَّازمة لِتسلُّق الأسوار. وشرع ريموند وگودفري في تشييد أبراجٍ من الخشب تسيرُ على عجلات ثُبِّتت بها المقاليع، وبعد الانتهاء من العمل نصبوا الأبراج وأسندوها إلى أسوار المدينة.[144][la 80]


الصليبيُّون عند استيلائهم على بيت المقدس وبُعيد انتهاء مجزرتهم بأهلها.
وفي أوائل شهر تمُّوز (يوليو)، بلغ الصليبيين خُرُوج الوزير الأفضل شاهنشاه من مصر على رأس جيشٍ كبيرٍ لِنجدة بيت المقدس، وإذ أدركوا أنَّهُ ليس ثمَّة ما يدعو بعدئذٍ إلى التمهُّل والإرجاء، جدُّوا في حصار المدينة وواصلوا الحرب، فأنشأوا ثلاثة أبراج ضخمة تطُلُّ على أسوارها ونصبوها عند السور الشمالي وجبل صهيون والطرف الشمالي الغربي من الأسوار.[146] وحدث الهُجُوم الصليبي الشامل ليلة 21 شعبان المُوافق فيه 14 تمُّوز (يوليو)، ثُمَّ اشتدَّ القتال واتخذ طابعًا عنيفًا في صباح اليوم التالي، وهو اليوم الذي نجحوا فيه بِاقتحام المدينة بعد حصارٍ استمرَّ نيفًا وأربعين يومًا.[144] وارتكب الصليبيُّون مذبحةً مُروِّعة بأهالي بيت المقدس خاضوا فيها حتَّى أكعابهم في دماء القتلى، وعندما التجأ المُسلمون إلى المسجد الأقصى تبعوهم وأجهزوا عليهم، وفاض المسجد كُلُّه بِدمائهم، وقد بلغ عدد القتلى في المسجد وحده ما يزيد على سبعين ألفًا بحسب ابن الأثير وغيره،(4) منهم جماعةٌ من أئمَّة المُسلمين وعُلمائهم وعُبَّادهم وزُهَّادهم، وفي هذا يقول ابن الأثير: «وَلَبِثَ اَلْفِرِنْجُ فِي اَلْبَلْدَةِ أُسْبُوعًا يَقْتُلُونَ فِيهِ اَلْمُسْلِمِينَ… وَقَتَلَ اَلْفِرِنْجُ بِالْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى مَا يَزِيدُ عَنْ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ اَلْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ وَزُهَّادَهِمْ مِمَّنْ فَارَقَ اَلْأَوْطَانَ وَجَاوَرَ بِذَلِكَ اَلْمَوْضِعِ اَلشَّرِيفِ».[130] ولاحق الصليبيُّون المُسلمين في الشوارع وقتلوهم حيثما وجدوهم، كما اقتحموا بُيُوتهم وفتكوا بهم، ولم يجد الناسُ مكانًا آمنًا يعتصمون فيه، فألقى بعضهم بِأنفُسهم من فوق الأسوار، وازدحم آخرون في القُصُور والأبراج والمساجد، ولم يعُد يُسمع إلَّا أنين الجرحى وحشرجات الموتى، كما وطئ الفُرسانُ أكداس الجُثث وهُم يُطاردون أولئك الذين حاولوا الهرب عبثًا.[144] وقد اعترف المُؤرِّخون الصليبيُّون بهذه الحقيقة، فقال ڤوشيه الشارتري: «لَوْ كُنْتَ هُنَاكَ لَتَلَطَّخَتْ قَدَمَاكَ حَتَّى اَلْكَوَاحِلِ بِدِمَاءِ اَلْقَتْلَى، مَاذَا أَقُولُ؟ لَم يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَد، وَلَمْ يَرْحَمُوا اِمْرَأَةً وَلَا طِفْلاً».[la 81] وقال وليم الصوري واصفًا المجزرة:[148]

الحملة الصليبية الأولى كَانَ مِنْ اَلْمُسْتَحِيلِ أَنْ يُطَالِعَ اَلْمَرْءُ كَثْرَةَ اَلْقَتْلَى دُونَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ اَلْفَزَعُ، فَقَدْ كَانَتْ اَلْأَشْلَاءُ اَلْبَشَرِيَّةُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَغَطَّتْ اَلْأَرْضُ دِمَاءَ اَلْمَذْبُوحِين، وَلَمْ تَكُنْ مُطَالَعَةُ
اَلْجُثَثِ - وَقَدْ فَارَقَتْهَا رُؤُوسُهَا - وَرُؤْيَةُ اَلْأَعْضَاءِ اَلْمَبْتُورَةِ اَلْمُبَعْثَرَةِ فِي جَمِيعِ اَلْأَرْجَاءِ هِيَ وَحْدَهَا اَلَّتِي أَثَارَتْ اَلرُّعْبَ فِي نُفُوسِ جَمِيعِ مِنْ شَاهَدُوهَا، بَلْ كَانَ هُنَاكَ مَا هُوَ أَبْعَث عَلَى اَلْفَزَعِ أَلا وَهُوَ مَنْظَرُ اَلْمُنْتَصِرِينَ أَنْفُسِهِمْ وَقَدْ تَخَضَّبُوا بِالدِّمَاءِ فَغَطَّتْهُمْ مِنْ رُؤُوسِهِمْ إِلَى أَخْمَصِ أَقْدَامِهِمْ، فَكَانَ مَنْظَرًا مُرَوِّعًا بَثَّ اَلرُّعْبَ فِي قُلُوبِ كُلِّ مِنْ قَابَلُوهُمْ، وَيُقَالُ أَنَّهُ قُتِلَ فِي دَاخِلِ سَاحَةِ اَلْمَسْجِدِ وَحَّدَهَا عَشَرَةُ آلَافٍ مِنْ اَلْمَارِقِينَ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَنَّ اَلْقَتْلَى اَلَّذِينَ تَنَاثَرَتْ جُثَثَهُمْ فِي كُلِّ شَوَارِعِ اَلْمَدِينَةِ وَمَيَادِينِهَا لَمْ يَكُونُوا أَقَلَّ عَدَدًا مِمَّنْ ذَكَرْنَاهُمْ.
وَانْطَلَقَ بَقِيَّةُ اَلْعَسْكَرِ يَجُوسُونَ خِلَالُ اَلدِّيَارِ بَحْثًا عَمَّنْ لَا زَالَ حَيًّا مِنْ اَلتُّعَسَاء اَلَّذِينَ قَدْ يَكُونُونَ مُخْتَفِينَ فِي اَلْأَزِقَّةِ وَالدُّرُوبِ اَلْجَانِبِيَّةِ فِرَارًا مِنْ اَلْمَوْتِ، فَكَانُوا إِذَا عَثَرُوا عَلَيْهِمْ سَحَبُوهُمْ عَلَى مَشْهَدٍ مِنْ اَلنَّاسِ وَذَبَحُوهُمْ ذَبْحَ اَلشِّيَاهِ. الحملة الصليبية الأولى

مُنمنمة إفرنجيَّة تُصوِّرُ الصليبيين بِداخل كنيسة القيامة عند القبر المُقدَّس.
ولم يكن اليهود بِأحسن حالًا من المُسلمين، ففي غمرة ارتكاب المذابح التي تعرَّض لها السُكَّان، فرَّ يهود بيت المقدس، وكانوا مُستهدفين كالمُسلمين، إلى كنيسهم، غير أنَّ قادة الصليبيين قرَّروا إلقاء القبض عليهم بِحُجَّة أنَّهم ساعدوا المُسلمين، فلم تأخذهم بهم الرحمة والرأفة، فأشعلوا النار في الكنيس، ولقي من بداخله من اليهود مصرعهم مُحترقين.[149] أمَّا الأمير الفاطمي افتخار الدولة، فقد احتمى مع طائفةٍ من الجُند في محراب داود وقاتلوا فيه ثلاثة أيَّام، ولكنَّهم لم يلبثوا أن ألقوا السلاح بعد أن بذل لهم الصليبيين الأمان، وسمحوا لهم بالخُرُوج إلى عسقلان، فكانوا الفئة الوحيدة من مُسلمي بيت المقدس التي نجت من وحشيَّة الصليبيين.[130] ولمَّا جنَّ الليل دخل الصليبيُّون إلى كنيسة القيامة لِرفع صلاة الشُكر، باكين من شدَّة فرحهم بِتحقيقهم هدفهم الأسمى، مُعلنين «نهاية الحج».[144] ولم يسمع البابا أوربان الثاني واضع أساس الحرب الصليبيَّة بِهذا الانتصار، فقد تُوفي في روما يوم 8 رمضان 492هـ المُوافق فيه 29 تمُّوز (يوليو) 1099م، أي بعد أُسبُوعين من دُخُول جُنده بيت المقدس وقبل أن يصله نبأ ذلك.[la 82] واستنفر عددٌ من المُسلمين الشوام الخلافة العبَّاسيَّة لِتُنقذ البلاد والعباد، فخرجت جماعةٌ منهم إلى بغداد بِصُحبة القاضي أبي سعد الهروي، ودخلوا على ديوان الخليفة المُستظهر بِالله واستغاثوه والحاضرين، فأبكوهم بعد أن قصُّوا عليهم خبر ضياع بيت المقدس من المُسلمين وما جرى لأهلها من تقتيل، وألقوا ذات القصَّة على المُصلَّين يوم الجُمُعة، وذكَّروا الناس بِواجبهم تجاه إخوانهم. وعلى الرُغم من أنَّ الخليفة أمر بِخُروج القُضاة أبو مُحمَّد الدامغاني وأبو بكر الشاشي الفارقي وأبو القاسم الزنجاني وأبو الوفاء بن عقيل وأبو سعيد الحلواني وأبو الحُسين بن سمَّاك، لِنجدة المُسلمين، إلَّا أنَّ الخلافات والاضطرابات السياسيَّة الكبيرة التي كانت تعصف بِالخلافة العبَّاسيَّة والسلطنة السلجُوقيَّة حالت دون الأتيان بأي فعلٍ مُفيد. وأنشد الأديب والشَّاعر أبو المُظفَّر الأبيوردي قصيدةً بكى فيها بيت المقدس وحثَّ المُسلمين على نُصرة أهل الشَّام، من بعض أبياتها:[130]
مَزَجنا دِماءً بالدُّموعِ السَّواجِمِ فَلَم يَبقَ مِنّا عَرصَةٌ لِلمَراحِمِ
وَشَرُّ سِلاحِ المَرءِ دَمعٌ يُفيضُهُ إِذا الحَربُ شُبَّت نارُها بِالصَّوارِمِ
فإِيهاً بَني الإِسلامِ إِنَّ وَراءَكُم وَقائِعَ يُلحِقنَ الذُّرا بِالمَناسِمِ
أَتَهويمَةً في ظِلِّ أَمنٍ وَغِبطَةٍ وَعَيشٍ كَنُّوارِ الخَميلَةِ ناعِمِ
وَكَيفَ تَنامُ العَينُ مِلءَ جُفونِها عَلى هَفَواتٍ أَيقَظَتْ كُلَّ نائِمِ
وَإِخوانُكُم بِالشَّامِ يُضحي مَقيلُهُم ظُهورَ المَذاكي أَو بُطونَ القَشاعِمِ
تَسومُهُمُ الرُّومُ الهَوانَ وَأَنتُمُ تَجُرُّونَ ذَيلَ الخَفضِ فِعلَ المُسالِمِ

سوزان عبدالهادى يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://www-alolemy-com.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 1696
تاريخ التسجيل : 26/04/2017
العمر : 37
الموقع : محافظة الشرقىة جمهورية مصر العربية

الحملة الصليبيَّة الأولى  2 Empty
مُساهمةموضوع: تابع الحملة الصليبية الأولى 2   الحملة الصليبيَّة الأولى  2 Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 07, 2022 9:37 pm


تأسيس إمارة بيت المقدس
عدل

الصليبيُّون يُعلنون گودفري حاميًا لِلقبر المُقدَّس في كنيسة القيامة، بُعيد سُقُوط بيت المقدس في أيديهم.
أثار نجاح الحملة الصليبيَّة الأولى في تحقيق أهدافها العسكريَّة والروحيَّة مُشكلة تنظيم وضع بيت المقدس وسائر البلاد التي استولى عليها الصليبيُّون، وكيفيَّة تأسيس دولة غربيَّة على أرضٍ شرقيَّة تتألَّف من تلك العناصر المُشتَّتة والمُتباينة التي جرفها تيَّار الدعوة الصليبيَّة من أوروپَّا الغربيَّة في صعيدٍ واحد.[150] وكانت المُشكلة الداخليَّة الكبيرة التي واجهت الصليبيين بعد أن انتهوا من إبادة أهل بيت المقدس المُسلمين واليهود، هي تقرير أمر الحُكُومة المُقبلة. وظهرت في هذه الأثناء المُشكلة المُزمنة بين الكنيسة والدولة، فهل يكون حاكم الدولة الجديدة من العلمانيين أو الكنسيين؟ إذ بدا طبيعيًّا أنَّ المدينة المُقدَّسة التي سقطت في حربٍ مُقدَّسة على يد جيشٍ عيَّن البابا أحد رجال الكنيسة الكاثوليكيَّة قائدًا له، ينبغي أن يتولَّى حُكمها رجلٌ كنسيّ، لكنَّ الصليبيين افتقروا آنذاك إلى وُجُود قائدٍ روحيٍّ يعترفون جميعًا بِزعامته ويعهدون إليه بِتنظيم جُهُودهم، وهُنا شعروا بِعِظم الخسارة التي أصابتهم بِوفاة المندوب البابوي أدهمار في أنطاكية قبل نحو سنة (رمضان 491هـ المُوافق لآب [أغسطس] 1098م) الذي عُرف بِاتزانه، ولم يكن ثمَّة أحد من رجال الكنيسة بعده من توافر فيه من الهيبة والمكانة ما يكفل انتصار التوجُّه الكنسي.[150] ومن جهةٍ أُخرى، برزت الأطماع الشخصيَّة لِلقادة واضحة، فتخلَّى بعضهم عن الحملة وتوقَّف في الطريق لِتحقيق مكسبٍ خاص، مثلما فعل بلدوين في الرُّها وبوهيموند في أنطاكية، ولم يبقَ مع الحملة عند سُقُوط بيت المقدس من الأُمراء الكبار سوى خمسة هُم: گودفري البويني، وريموند الصنجيلي، وروبرت الفلمنكي، وروبرت كورتز النورماني، وتانكرد.[150]

واجتمع زُعماء الحملة الصليبيَّة الأولى الكنسيُّون والعلمانيُّون في 25 شعبان 492هـ المُوافق فيه 17 تمُّوز (يوليو) 1099م، لِتنظيم وضع المدينة وانتخاب حاكمٍ عليها. وكانت النيَّة تميل إلى تنصيب بطريركٍ كاثوليكي لاتيني رئيسًا لها وأن يُعهد إليه بِولايتها، لكن تغلَّبت النزعة العلمانيَّة بِفعل طبيعة الظُرُوف التي أحاطت بِالصليبيين، إذ أنَّ قيام دولةٍ لاتينيَّةٍ من النصارى الغربيين في قلب ديار الإسلام أمرٌ يحتاج إلى قيادةٍ حربيَّةٍ علمانيَّة لِلدفاع عن هذه الدولة ضدَّ أعدائها المُحيطين بها، لِذلك رأى مجلس الأُمراء الذي كان يُدير الحملة أنَّهُ لا غنى عن اختيار زعيمٍ عسكريّ، واستقرَّ الرأي على هذا، في ظل تنازع هؤلاء الأُمراء على المنصب.[150] وكان ريموند أهم هؤلاء الأُمراء وأخطر مُرشَّح لِلعرش بِسبب قُوَّة شخصيَّته وغناه وتجربته وارتباطه الطويل بأدهمار، وبُعد نظره السياسي، رُغم استياء كثير من الصليبيين من سياسة التقارب التي انتهجها مع الروم،[150] ومع ذلك، فقد عُرض عليه تاج بيت المقدس، ولكنَّهُ رفضه مُستندًا في ذلك - شكليًّا - إلى سببٍ دينيّ، وهو أنَّهُ لم يرغب في أن يحكم في المكان الذي عانى فيه المسيح العذاب عند صلبه، على الرُغم أنَّهُ ثمَّة من دواعي الشك ما يدل على أنَّ إقامة إمارة في طرابُلس، وما حدث من توقُّّف ذلك بِسبب ضغط سائر القادة؛ لا زال الهدف الأوَّل لِطُمُوحه.[151] ويبدو أنَّ الناخبين ارتاحوا لِهذا الرفض، فعرضوا التاج على گودفري فقبله بعد تردُّد، غير أنَّهُ طلب إعفاءه من اتخاذ لقب «ملك بيت المقدس»، قائلًا أنَّهُ يرفض وضع تاجًا من الذهب في المكان الذي وضع فيه المسيح إكليلًا من الشوك،[la 83] واكتفى بِأن اتخذ لقب «حامي القبر المُقدَّس»، ثُمَّ اختير «أرنولف الچوكيوسي» (بالفرنسية: Arnoulf de Chocques)‏، قسيس روبرت كورتز، بطريركًا لاتينيًّا على المدينة.[150][la 84]

إتمام غزو فلسطين
عدل
سُقُوط نابلس
عدل
بعد أن استقرَّت الأُمُور لِلصليبيين في بيت المقدس كما أُسلف، صارت الخُطوة التالية أمامهم هي الاستيلاء على بقيَّة مُدُن فلسطين، إذ لم يمتلكوا منها حتَّى ذلك الوقت سوى بيت المقدس وبيت لحم واللُّد والرملة ويافا. ويبدو أنَّ الصليبيين لم يُصادفوا صُعُوباتٍ كبيرة في تلك المُهمَّة، لِأنَّ سُقُوط بيت المقدس أحدث موجةً من الرُعب في نُفُوس أهالي المُدُن والقُرى المُجاورة، فضلًا عن خُلُوِّ تلك المُدُن من وسائل الدفاع. وكان أن أسرع أهالي نابلس إلى الاستسلام وأرسلوا وفدًا إلى الصليبيين يدعونهم لِتسلُّم المدينة، فتسلَّمها تانكرد دون صُعُوبة في أواخر تمُّوز (يوليو) 1099م.[152] ولم يكد تانكرد يفرغ من تلك المُهمَّة حتَّى تلقَّى رسالةً عاجلةً من گودفري في 14 رمضان المُوافق فيه 4 آب (أغسطس)، يطلب منه التوجُّه مُباشرةً صوب شاطئ البحر لِلتأكُّد من صحَّة الأخبار القائلة بِأنَّ حملةً إسلاميَّة وصلت من مصر إلى الشَّام.[152]

واقعة عسقلان
عدل
المقالة الرئيسة: معركة عسقلان

الصليبيُّون بِقيادة البطريرك أرنولف (أقصى اليمين) يستعرضون صليب الصلبوت في كنيسة القيامة، بعد أن استحصلوا عليه من القساوسة الأرثوذكس المقدسيين الذين أخفوه قبل إخراجهم من المدينة.
لم يكف الوزير الفاطمي الأفضل شاهنشاه عن الاستعداد لِمُقاتلة الصليبيين مُنذُ أن سمع بِزحفهم على بيت المقدس، فجمع رجاله وخرج من مصر لِيحول دون استيلائهم عليها، ولكنَّهُ وصل عسقلان في 14 رمضان المُوافق فيه 4 آب (أغسطس)، وقد فات الأمر، أي بعد أن استولى عليها الصليبيُّون بِعشرين يومًا.[149] وهكذا أُصيب الأفضل بِخيبة أملٍ كبيرة بعد أن اعتقد في وقتٍ ما أنَّ الصليبيين سيقنعون بِالاستيلاء على شمال الشَّام، ويحرصون على صداقة الفاطميين بِوصفهم حُلفائهم الطبيعيين ضدَّ السلاجقة. ولم يسع الأفضل عند وُصُوله إلى عسقلان سوى أن يُرسل رسولًا إلى الصليبيين يُوبِّخهم على ما فعلوه.[153] ويبدو أنَّ الأفضل لم يكن قديرًا في ميدان الحرب بِقدر ما هو معروفٌ عنه من مهارةٍ سياسيَّةٍ وإداريَّة؛ إذ يروي سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان أنَّ الوزير الفاطمي أضاع وقتًا ثمينًا ينتظر الأُسطُول وقُوَّات العربان، فاستغلَّ الصليبيُّون ذلك: «…فَنَزَلَ ظَاهِرَ عَسْقَلَان فِي رَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانْ يَنْتَظِرُ اَلْأُسْطُولَ فِي اَلْبَحْرِ وَالْعَرَبِ، فَنَهَضَ إِلَيْهِ اَلْفِرِنْجُ فِي خَلْقٍ عَظِيمٍ، فَانْهَزَمَ اَلْعَسْكَرُ اَلْمِصْرِيُّ إِلَى نَاحِيَةِ عَسْقَلَان، وَدَخَلَ اَلْأَفْضَلَ عَسْقَلَان، وَلَعِبَتْ سُيُوفُ اَلْفِرِنْجِ فِي اَلْعَسْكَرِ وَالرَّاجِلِ وَالْمُطَوَّعَةِ وَأَهْلُ اَلْبَلَدِ…».[154] ففي الوقت الذي كان الأفضل مُنتظرًا في عسقلان، وصلت الأخبار إلى بيت المقدس بِحُضُوره، فأرسل گودفري إلى تانكرد على النحو سابق الذكر، فأسرع تانكرد ومعهُ فُرسانه إلى قيسارية، ومنها اتجهوا جنوبًا على امتداد الشاطئ حتَّى الرملة لِلبحث عن الحملة الفاطميَّة، حتَّى عثروا على عددٍ كبيرٍ من الكشَّافين الفاطميين فيما بين يافا والرملة، فقبضوا عليهم وعرفوا منهم التفاصيل اللازمة، وفي الحال أرسل تانكرد رسالةً عاجلةً إلى گودفري يطلب منه الحُضُور بِسُرعة ومعهُ كافَّة مُقاتلي الصليبيين.[152]

وقُبيل خُروج الجيش الصليبي من بيت المقدس، عاد أهل المدينة الأصليين من النصارى الشرقيين ودخلوها، لِيُفاجأوا بأنَّ بطريركًا كاثوليكيًّا غربيًّا قد أصبح زعيمها الروحي. وبادر البطريرك المذكور إلى استبعاد القساوسة الأرثوذكس من كنيسة القيامة، وبدأ يُضفي عليها صبغةً لاتينيَّة، وأجبرهم على إظهار صليب الصلبوت، الذي يُؤمن النصارى بِصلب المسيح عليه، وكانوا قد أخفوه عند خُرُوجهم من بيت المقدس أيَّام افتخار الدولة. ولم يعد أمام الأرثوذكس في بيت المقدس سوى قُبُول الوضع الجديد بعد أن تفرَّق زُعماؤهم الروحيُّون وأصبح من المُستحيل عليهم تعيين بطريركٍ لهم يستطيع الصُمُود أمام البطريرك الكاثوليكي الجديد.[155] وأمر البطريرك أرنولف بِرفع الحربة المُقدَّسة التي عُثر عليها في أنطاكية، وصليب الصلبوت، على رأس الجيش الخارج من بيت المقدس إلى عسقلان، فرفع ريموند الأگیلي (بالفرنسية: Raymond d'Aguilers)‏ الحربة المذكورة في حين اكتنف أرنولف نفسه الصليب.[la 85]
وفي يوم 19 رمضان المُوافق فيه 9 آب (أغسطس)، خرج الصليبيُّون من بيت المقدس بِقيادة گودفري زاحفين بِاتجاه الرملة، ومنها تابعوا زحفهم جنوبًا نحو عسقلان.[152] وفي صبيحة يوم 22 رمضان المُوافق فيه 12 آب (أغسطس)، بادر الصليبيُّون بِمُهاجمة المُعسكر الفاطمي في سهل المجدل الواقع شمال عسقلان، والواقع أنَّ الأفضل أُخذ على حين غرَّة، فقد باغتته القُوَّات الصليبيَّة بعد أن فشل في توقُّع وُجودهم على مسافةٍ قريبةٍ منه، كما لم يُبدِ رجاله إلَّا مُقاومةً ضئيلة لأنَّهم لم يكونوا مُتأهبين لِلقتال، مُرتكبين خطأ عسكريًّا آخر. ولم تمضِ إلَّا مُدَّةً وجيزةً حتَّى حلَّت بهم الهزيمة وولُّوا هاربين إلى ناحية عسقلان. أمَّا الوزير الأفضل فركب سفينةً أعادته إلى مصر.[149][152] أكَّد هذا الانتصار أنَّهُ ليس بِوسع الفاطميين أن يستردُّوا ما فقدوه من بلاد، لكنَّ ذلك لم يعني أنَّ بِإمكان الصليبيين الاستيلاء على جميع نواحي فلسطين، لأنَّ البحريَّة الفاطميَّة كانت لا تزال تُسيطر على ساحل الشَّام، وتبسط حمايتها على الموانئ البحريَّة، وأتاح لِلصليبيين معرفة أنَّ الجُنُود الفاطميين لا يُضارعون السلاجقة المُروِّعين، ما أعطاهم الثقة بِالنصر.[156] أمل گودفري أن يعقب انتصاره على الأفضل بِالاستيلاء على عسقلان، لِذلك ضرب الحصار عليها، وإذ أدركت حاميتها أنَّهُ ليس بِوسعها الصُمُود أمام الصليبيين، فضَّلت الاستسلام، وبِخاصَّةٍ أنَّ المذابح التي تعرَّض لها المُسلمون في بيت المقدس كانت لا تزال ماثلة أمام أفرادها، فلم يشاؤوا أن يتعرَّضوا لِلمصير نفسه.[156] وهكذا أرسل أهل المدينة إلى ريموند لِتسليم المدينة إليه بعد أن لمسوا ما فعله مع افتخار الدولة حين سمح لهُ ولِرجاله بالخُرُوج سالمين من بيت المقدس، واشترطوا عليه تأمينهم على أرواحهم وحُريَّاتهم. ولكنَّ گودفري خشي من استيلاء خصمه السياسي سالف الذِكر على عسقلان التي قد يجعلها عاصمةً لِإمارته على ساحل فلسطين، لِذا طلب منهُ أن يتخلَّى عنها، فرحل بِقُوَّاته، وأدَّى ذلك إلى أن ينسحب گودفري بدوره لِأنَّ قُوَّاته لم تكن من القُوَّة ما تستطيع الاستمرار في فرض الحصار على عسقلان واقتحامها،[156] إلَّا أنَّهُ فرض على أهلها عشرين ألف دينار، فلم يدفعوا منها شيئًا كون الصليبيين لم يتمكنوا من تحصيلها نتيجة الخلاف بين ريموند وگودفري كما أُسلف.[149] وهكذا أدَّى النزاع بين القائدين الصليبيين إلى ضياع عسقلان من أيدي هؤلاء الغُزاة الغربيين لِقُرابة نصف قرن، تلى ذلك أن عرضت مدينة أرسوف الصغيرة أن تستسلم لِريموند، وكان قد هاجمها بعد انصرافه من أمام عسقلان، فتصدَّى له گودفري من جديد بِوصفها تتبع بيت المقدس.[156] وعند انتهاء شهر آب (أغسطس)، قرَّر كُلٌ من روبرت كورتز النورماني وروبرت الفلمنكي مُغادرة الشرق والعودة إلى وطنيهما في أوروپَّا، وكُلٌ منهما يعتبر أنَّهُ أوفى نُذُوره وقام بِواجبه المسيحي، فسارا شمالًا، وسار معهما ريموند، واختار بعد وُصُوله إلى اللاذقيَّة البقاء في شماليّ الشَّام لِيعمل على مُساعدة البيزنطيين على الحدِّ من قُوَّة بوهيموند أمير أنطاكية، ولِيسعى في تأسيس إمارته الخاصَّة أيضًا، على أمل أن يحظى مسعاه بِدعم حُلفائه الروم.[149]
هذا تقطع الطريق بين بيت المقدس والشمال.[167] ولم يلبث وارنر المُعتصم بِالمحراب أن توفي هو الآخر، فاستعجل أنصار بلدوين في بيت المقدس حضوره، وأرسلوا إليه يُعلمونه بِوفاة أخيه ويحثُّونه على الحُضُور لِتسلُّم مقاليد الحكم،[la 88] فما كان من تانكرد وداگوبرت إلَّا أن قرَّرا استدعاء بوهيموند أمير أنطاكية لِلاستعانة به ضدَّ بلدوين، ثُمَّ تسليمه حُكم المدينة، وذكر داگوبرت في رسالته إلى بوهيموند أنَّ وصول بلدوين وتسلُّمه الحُكم معناه سُقُوط الكنيسة ودمار المسيحيَّة ذاتها.[la 88] غير أنَّ الرسالة لم تصل أمير أنطاكية، إذ كان قد وقع في أسر الأمير كمشتكين غازي الدانشمندي أثناء زحفه لِمُساعدة الأمير جبريل الأرمني صاحب ملطية الذي كان يتعرَّض لِهُجُوم الدانشمنديين.[la 89]


مُنمنمة إفرنجيَّة تعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي، تُصوِّرُ تتويج بلدوين ملكًا على بيت المقدس باسم «بلدوين الأوَّل»، لِيُصبح أوَّل مُلُوك اللاتين في المشرق العربي.
وبحسب ڤوشيه الشارتري، فإنَّ بلدوين ما أن وصلته الرسالة حتَّى أظهر «شيئًا من الحُزن» على وفاة أخيه، ولم يُخفِ اغتباطه لِلاستيلاء على إرث گودفري،[la 88][la 90] فغادر الرُها مُتوجهًا نحو بيت المقدس في 26 ذي القعدة 493هـ المُوافق فيه 2 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1100م، بعد أن عهد بِشُؤون الرُّها إلى قريبه بلدوين البوركي (بالفرنسية: Baudouin de Bourcq)‏، ووصل إلى أنطاكية، وسار منها إلى اللاذقيَّة وبِصُحبته قُرابة مائتيّ فارس وما بين ثلاثُمائة وسبعُمائة راجل،[la 88][la 91] ومنها سار إلى طرابُلس حيثُ رحَّب به قاضيها فخر المُلك بن عمَّار وقدَّم لهُ ما يحتاجه من عدَّةٍ ومؤن، وحذَّره من أنَّ سلاجقة الشَّام يتربصون به، وتعهَّد لهُ بأن يُحيطه علمًا بتحرُّكات دقَّاق، العدو المُشترك لِكليهما.[la 91] وتابع بلدوين سيره على طريق الساحل حتَّى وصل إلى نهر الكلب، وهُناك كمن لهُ دقَّاق في ممرٍّ ضيِّقٍ بين البحر والجبل بِنيَّة القضاء عليه، وكان معهُ أمير حمص جناح الدولة حُسين إضافةً إلى دُرُوز جبل لُبنان بِقيادة الأمير عضُد الدولة التنُّوخي.[la 91][la 88][168][169] ولمَّا حاول القائد الصليبي عُبُور النهر، فشل بِسبب ضخامة القُوَّات التي اعترضت طريقه، فأُلحقت به خسائر كبيرة، لكنُّه تمكَّن من تنظيم قُوَّاته وانقضَّ على المُسلمين وهزمهم، وتابع زحفه جنوبًا دون أن يُصادف مُقاومة حتَّى وصل بيت المقدس في 5 مُحرَّم 494هـ المُوافق فيه 10 تشرين الثاني (نوڤمبر) 1100م.[170] وعندما اقترب بلدوين من بيت المقدس، خرج الصليبيُّون لِلترحيب به بِوصفه أخي گودفري ووريثه، والتقوا به خارج أسوارها، فصحبوه مُعزَّزًا مُكرَّمًا إلى كنيسة القيامة ونادوا به ملكًا وسيِّدًا وذلك يوم 6 مُحرَّم المُوافق فيه 11 تشرين الثاني (نوڤمبر)، وأعلن القادة الصليبيُّون ولاءهم له بِاستثناء تانكرد وداگوبرت، فغادر الأخير دار البطريركيَّة ولجأ إلى ديرٍ على جبل صهيون، وانسحب الأوَّل بِاتجاه الشمال إلى إمارته في الجليل.[la 92] وبِذلك تحوَّلت إمارة بيت المقدس إلى مملكةٍ صليبيَّةٍ لاتينيَّة بعد مضيّ ما يزيد على أربع سنواتٍ على مُغادرة الصليبيين ديارهم الأوروپيَّة.

تبعات الحملة
عدل
طالع أيضًا: حصار طرابلس والحملة الصليبية في سنة 1101

قاضي طرابُلس فخر المُلك بن عمَّار يستسلم لِبرتراند بن ريموند، لِتدخُل المدينة في حوزة الصليبيين.
بعد تربُّع بلدوين على عرش بيت المقدس، أخذ يعمل على توسيع حُدُود دولته وغزو بعض البلاد الإسلاميَّة المُجاورة، فعاث بِجيشه أرض الخليل، ووادي العريجة ووادي الجدي، على الضفَّة الغربيَّة من البحر الميت، إلى أن وصل إلى وادي موسى. وفي 13 جُمادى الأولى 494هـ المُوافق فيه 15 آذار (مارس) 1101م، اتفق بلدوين مع قادة أُسطُولٍ جنويّ على الاستعانة بِسُفُنهم بضعة أشهُرٍ لِاستيلاء على مُدُن الساحل الفلسطيني، فوافقوا لِقاء حُصُولهم على ثُلُث الغنائم. وتنفيذًا لِهذا الاتفاق، مضى بلدوين والجنويُّون لِإلقاء الحصار على أرسوف، فعرض أهلها تسليمها دون قتال، شرط أن يخرجوا منها أحرارًا، فقبل بلدوين بذلك وحافظ على عهده معهم. وبعد أرسوف، حاصر بلدوين وحُلفاؤه قيسارية واحتلُّوها عنوةً، وانتقموا من أهلها المُسلمين شرَّ انتقام، فذبحوا الرجال والنساء والأطفال، عدا قاضي المدينة وأميرها، على أمل أن يتقاضوا منهما فديةً لائقة.[171] وحذا ريموند الصنجيلي حذو بلدوين، فاستعان بالجنويين واستولى بِفضل أُسطُولهم على مدينة طرطوس يوم 2 شعبان 495هـ المُوافق فيه 21 أيَّار (مايو) 1102م، وبعد أن قرَّر الأُمُور فيها أخذ يشن الهجمات منها على أعمال طرابُلس لِتحقيق أُمنيته الغالية بِتأسيس إمارةٍ له في المشرق. وعاون ريموند جماعةٌ من موارنة جبل لُبنان لِلاستيلاء على مُدُن الساحل، وعلى الخُصُوص حينما هاجم مدينة جُبيل، فتمكَّن من الاستيلاء عليها يوم 26 رجب 497هـ المُوافق فيه 23 نيسان (أبريل) 1104م. وضرب الصليبيُّون حصارًا على طرابُلس ضاربين بِعرض الحائط صداقتهم مع بني عمَّار أُمراء المدينة، وشيَّد ريموند قلعةً عظيمة على رأس رابيةٍ تُشرف على طرابُلس لِإحكام الحصار عليها، لكنَّ القدر لم يُمهل القائد الصليبي حتَّى يُحقق حُلمه، فعالجه المنون يوم 12 جُمادى الآخرة 498هـ المُوافق فيه 28 شُباط (فبراير) 1105م.[172] خلف ريموند ابن عمُّه وليم قُمَّس سيردانية (بِالقطلونيَّة: Guillem de Cerdanya)، فتابع الإغارة على أعمال طرابُلس، فسقطت بيديه عرقة وبضعة قلاع في عكَّار، أمَّا طرابُلس نفسها فبقيت صامدة حتَّى وصلها أُسطُولٌ جنويّ من سبعين سفينة بِقيادة برتراند، الابن الأكبر لِريموند، وضيَّق الحصار على المدينة، فاستسلم أهلها شرط تركهم أحرارًا والحفاظ على حياتهم، فوافق برتراند على هذا، ودخل الصليبيُّون المدينة يوم 12 ذي الحجَّة 502هـ المُوافق فيه 12 تمُّوز (يوليو) 1109م، ولم يحترموا وعدهم، إذ أنَّ الجنويين اعتبروا بأنَّهم غير مُقيَّدين بِالاتفاق المذكور، فنهبوا طرابُلس وأمعنوا قتلًا في أهلها.[172] وبِهذا تأسست قُمسيَّة طرابُلس لِتُصبح الدولة الصليبيَّة الرابعة في المشرق العربي.


الكيان الصليبي عند اكتمال دويلاته.
قبل سُقُوط طرابُلس، كان بلدوين ملك بيت المقدس قد تمكَّن من الاستيلاء على عكَّا، ثُمَّ تحرَّك بُعيد انتصار برتراند لِاستكمال احتلال الثُغُور الساحليَّة الشَّاميَّة، فسقطت في يديه صيدا وبيروت، أمَّا مدينة صور فبقيت صامدة حتَّى سنة 1124م لِتُصبح آخر مدينةٍ يحتلَّها الصليبيُّون.[172][173] وبهذا اكتمل شكل الكيان الصليبي في الشَّام. ولمَّا استقرَّت دعائم الحُكم اللاتيني الغربي، أخذ العديد من النصارى الشرقيين، من عربٍ وسُريانٍ وأرمن وروم يُظهرون امتعاضهم من التدابير الصليبيَّة، ذلك أنَّ الوافدين الغربيين، رُغم انتهاج بعض قادتهم أحيانًا سياسة هدفت إلى الربط بين العناصر المُختلفة التي تتكوَّن منها دُويلاتهم، كما فعل بلدوين حينما تزوَّج من أميرةٍ أرمنيَّةٍ تُدعى «أردا» (بالأرمنية: Արդա)، غير أنَّهم حرصوا على تسيُّد العُنصر الأوروپي الغربي، من ذلك أنَّ بلدوين جذب إلى الرُّها عددًا كبيرًا من الصليبيين اللاتين وأغدق عليهم الأموال، فشكَّلوا طبقةً أرستقراطيَّة عسكريَّة في تلك الدُويلة تحكم شعبًا من الأرمن جُلَّ أفراده مُزارعين وتُجَّار، وعاش الغربيُّون بعيدًا عن الاختلاط بالنصارى المحليين ممَّا أساء كثيرًا إلى شُعُورهم. وسُرعان ما استولى الصليبيُّون على الضياع الزراعيَّة التابعة لِلرُّها خارج أسوارها، واضطرَّ من عليها من الفلَّاحين الأرمن إلى العمل في ظل القُيُود الإقطاعيَّة المعروفة في الغرب الأوروپي، فضلًا على أنَّ الضرائب التي ظلَّ أهل الرُّها يدفعونها لم تخُف عمَّا كانت عليه قبل الصليبيين.[174]

كذلك، كان لِلمجزرة التي أوقعها الصليبيُّون بِالمُسلمين في بيت المقدس أثرٌ بعيد الأمد على العلاقات السياسيَّة بين الطرفين، كما أنَّها أثارت هلع المسيحيين عُمومًا لِما حملته في طيَّاتها من انعكاسٍ على العلاقة بين المُسلمين والنصارى، ولمَّا كانت بعض القوى الإسلاميَّة على استعدادٍ لِلاعتراف بِالصليبيين على أنَّهم عاملٌ جديد فيما ساد ذلك العصر من سياساتٍ مُعقدَّة، فإنَّ المجزرة جعلت هؤلاء يُصمِّمون على طرد الغُزاة الغربيين. وفيما بعد، عندما سعى بعض العُقلاء اللاتين نحو إيجاد أُسسٍ لِلتقارب مع المُسلمين والتعاون معهم، كانت ذكرى هذه المذبحة تعترض دائمًا الوُصُول إلى اتفاق.[175]

سوزان عبدالهادى يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://www-alolemy-com.yoo7.com
 
الحملة الصليبيَّة الأولى 2
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الحملة الصليبية الأولى
» الحملة الصليبيَّة الثانية
» الحملة الصليبية الخامسة
» الحملة الصليبية السادسة
» الحملة الصليبية السابعة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات العليمى للثقافة :: أهلا بكم :: التاريخ الإسلامى-
انتقل الى: