على موعد مع القدر، جاء أحمد بن محمد خان أو أحمد الثالث لعرش العثمانيين في وقت كانت الفوارق الحضارية بين السلطنة العثمانية وأوروبا آخذة في الاتساع، وكان على السلطان الجديد أن يدفع تكلفة مواجهة أطماع روسيا من ناحية، وتكلفة الصراع بين القوى المحافظة وقوى التجديد في سلطنته.
د. أحمد الصاوي (القاهرة) - ولد أحمد لأبيه السلطان محمد الرابع في عام 1083هـ «30 ديسمبر 1673م» من أم ولد هي ربيعة سلطان وتولى عرش البلاد عام 1115هـ بعد أن ظل ولياً للعهد في سلطنة أخيه مصطفى الثاني قرابة 11 عاماً، انتهت بثورة جنود الانكشارية على مصطفى الثاني وعزله ليتولى هو عرش الخلافة العثمانية. وقد حكم أحمد الثالث البلاد حتى عزل في ثورة أخرى للانكشارية في عام 1143هـ «1730م» ليتولى أخوه محمود السلطنة.
موهبة
نشأ السلطان أحمد محباً للموسيقى والفن كما كان شاعراً وخطاطاً وإن جاءت موهبته الأدبية دون موهبة السلطان مصطفى الثاني، وفي عهده تطلع العثمانيون نحو أوروبا الناهضة بانبهار شديد، وكان هو في طليعة النخبة العثمانية التي راحت تقلد مظاهر الحضارة الغربية فأنفق ببذخ على تشييد القصور ذات الحدائق الغناء والتي اقتبس تصميمها من العواصم الأوروبية الكبرى وعلى رأسها فيينا.
وكان أحمد الثالث من أشد المغرمين بالزهور، وبخاصة زهرة اللالا أو التيوليب حتى إن البستانيين في عهده أنتجوا عشرات الأنواع منها حتى عرف عصره باسم عصر اللالا. وقد انعكس ذلك على الفنون التركية العثمانية خلال سلطنته التي امتدت لقرابة 28 عاماً، فظهر في التصاوير ممسكاً بهذه الزهرة، كما حفلت المنتجات الفنية المختلفة برسوم هذه الزهرة وبخاصة في المنسوجات والخزف.
ونلمح أثر ذلك الاهتمام بزهرة التيوليب في البلاطات الخزفية التي كسيت بها الجدران الداخلية لمسجد السلطان أحمد الثالث الذي يعد من أجمل وأضخم المساجد العثمانية باستانبول ويعرف اليوم باسم الجامع الأزرق نظراً لهيمنة اللون الأزرق على البلاطات الخزفية فيه.
التفكير في الانتقام
ومع أن أحمد الثالث تولى السلطنة رغماً عنه تحت ضغط ثورة الانكشارية فإن حياته المترفة لم تحل بينه وبين التفكير في الانتقام من جنود الانكشارية ففي بداية حكمه أنفق بسخاء عليهم حتى أمنوا جانبه بل ورخص لهم في قتل المفتي فيض الله الذي كان يعارض رغباتهم، ثم ما لبث أن انقض عليهم وقتل معظم القادة الذين تورطوا في حادث أدرنة وعزل مصطفى الثاني فضلاً عن قتله للصدر الأعظم نشانجي أحمد باشا الذي انتخبه الثوار.
وشرع السلطان بعد ذلك في الاهتمام بأوروبا تارة برغبته الكاملة وتارات أخرى رغماً عن أنفه.
فقد أرسل السفراء والوفود إلى أرجاء أوروبا لجمع المعلومات عن مدى التطور الذي أحرزته أوروبا في مجالات الحياة المدنية والتنظيم وأيضاً في مجال تنظيم وتدريب وتسليح الجيوش. ولكن تعنت الانكشارية وخشيتهم من ضياع امتيازاتهم إذا ما أعيد تنظيم الجيوش العثمانية على النمط الأوربي حال دون أحمد الثالث ورغبته في تحديث الجيش.
إصلاحات
واختار السلطان صهره الداماد حسن باشا ليكون رئيساً للوزراء أو صدراً أعظم وعهد إليه بإجراء إصلاحات سياسية وعسكرية لدفع البلاد نحو التطور ولحماية حدودها من مخاطر الغزو الروسي وقام الصدر الأعظم بواجباته بإخلاص كبير فقام بالاهتمام بإنشاء القلاع وتجديد الترسانة، كما أنشأ الكثير من المدارس، ولكن القوى المحافظة دبرت له المكائد حتى تم عزله.
وأجبرت الأحداث أحمد الثالث على خوض غمار الحرب ضد روسيا القيصرية بعدما نجحت بقيادة بطرس الأكبر في هزيمة السويد التي فر ملكها لتركيا، وكان هدف السلطان استرداد بعض المدن التي سيطر عليها الروس وبالفعل نجح الصدر الأعظم بلطة جي محمد باشا في هزيمة القوات الروسية بل ومحاصرة القيصر الذي كاد يقع في الأسر هو وعشيقته كاترين ثم عقدت معاهدة فلكزن بين الطرفين وتنازلت فيها روسيا عن المدن التي كانت بحوزتها على البحر الأسود ولما نقض بطرس المعاهدة توسطت البندقية وإنجلترا لعقد اتفاقية أدرنة في 18 يونيه 1713م التي أخلي فيها البحر الأسود نهائياً من الوجود الروسي.
حرب جديدة
ومع توقف الحرب مع روسيا سعت الانكشارية لدخول حرب جديدة في أوروبا طمعاً في الغنائم والأسلاب وامتثل أحمد الثالث لرغباتهم وكلف الصدر الأعظم علي باشا بقيادة الحرب لاسترداد بلاد المورة باليونان وانتزاعها من يد البنادقة، ولكن تدخل النمسا لصالح البنادقة أدى لهزيمة العثمانيين ومقتل الصدر الأعظم وسقوط بلجراد بأيدي القوات النمساوية وتعزز ذلك الوضع بتوقيع اتفاقية بين الطرفين في عام 1718م.
وإزاء ضغوط الانكشارية اضطر السلطان لتكليف الصدر الأعظم الجديد إبراهيم باشا بخوض حرب جديدة، ولكن هذه المرة باتجاه الشرق، حيث حدثت بعض اضطرابات في إيران انتهت بسيطرة مير محمد أمير أفغانستان عليها فأسرع الصدر الأعظم باحتلال أرمينيا وبلاد الكرج، بينما احتل الروس إقليم طاغستان مع سواحل بحر الخزر وتجنباً لحدوث الحرب طلب قيصر روسيا وساطة الفرنسيين لعقد اتفاقية مع العثمانيين احتفظ بمقتضاها كل طرف بما احتله من أراض.
استرداد القلاع
ولكن الرياح أتت بما لم تشتهِ سفن أحمد الثالث إذ قام الشاه طهماسب الصفوي بمهاجمة العثمانيين واسترد قلاع تبريز وهمدان وكرمان شاه نظراً لتأخر السلطان في إرسال المدد متعللاً بدخول فصل الشتاء فثارت الانكشارية ومعها الجمهور الغاضب ضد تقاعس أحمد الثالث وتفاقم العصيان بدرجة خطيرة، حيث هوجمت السجون، بل هوجم السلطان في قصره في إسكدار وطلبت الانكشارية منه تسليم الصدر الأعظم والمفتي وأميرال الأساطيل البحرية لقتلهم نظراً لميلهم للصلح مع العجم، وبالفعل سمح السلطان لهم بقتل الصدر الأعظم والأميرال فقط، ولكن ذلك لم يكن كافياً إذ أصر بترونا خليل قائد الثورة على عزل السلطان، فكان له ما أراد وانتهت بذلك فترة سلطنته على يد الانكشارية تماماً مثلما انتهت سلطنة أخيه مصطفى الثاني.
وتوضح الصور الخاصة بالسلطان أحمد الثالث أنه كان يتمتع بقامة طويلة ووجه معبر عن نظرة حالمة ومتأملة وكانت أناقته بادية كسلطان بعمامته البيضاء الضخمة التي تنتهي بريشات وجواهر ثمينة، ثم بلحيته المشذبة السوداء المتصلة بشارب أنيق ويبدو واضحاً من صورته وهو جالس على العرش وإلى جواره على البعد أحد رجال الحاشية أن كرسي العرش كان يزدان برسوم زهرة اللالا أو التيوليب المحببة إليه.
أنشطة السلطان وحياة البلاط
ترك لنا المصور التركي وهبي عدداً كبيراً من الصور الخاصة بأنشطة السلطان في البلاط التي رسمها لتوضيح نصوص كتاب السرنامة «سرنامة وهبي» وهو كتاب خاص بالاحتفالات السلطانية في عهد أحمد الثالث، ومنها بعض صور للسلطان وهو يستعرض بعض أرباب الحرف مثل باعة الفواكه، والمهرجين، والحواة، وصناع الزجاج، والمنسوجات، وهناك أيضاً صورة توضح رحلة بحرية قام بها السلطان في البسفور مع حريمه ولعلها تكشف عن جانب مهم من شخصية أحمد الثالث وهو جانب الولع بالنساء كمظهر من مظاهر الترف التي عمت فترة حكمه.
ومن المعروف أن أحمد الثالث تزوج 13 امرأة ومن المؤرخين من رفع العدد إلى 18 امرأة معظمهن من جواري البلاط من مختلف الجنسيات ويقال إنه أنجب خمسين ولداً.
الأربعاء يوليو 03, 2019 2:32 pm