الأمانة
والأمانة نوعان
1- النوع الأول:
الأمانة العامة، وهي أمانة التكاليف الشرعية أمرًا ونهيًا، وفعلًا وتركًا، وقولًا وعملًا، واعتقادًا، وفيها: نزل قول الله جل ثناؤه: إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 72، 73].
عرضت الأمانة بالاختيار والإرادة: من المطيع؟ فأبت السموات والأرض والجبال ذاك العرض، وأبين إلا البقاء والدوام على طاعة الجبر والقسر، وخافت هذه المخلوقات من عصيان المنتقم الجبار؛ لما في الاختيار من جواز العصيان والكفران سيما مع كثرة الأعداء وجبروت المتجبرين وكبر المتكبرين، ومآل العصاة النار وغضب الجبار.
أما الإنسان فإنه حمل أمانة التكاليف:
ولِمَ لا يحملها وهو الذي رزق نعمة العقل التي تجعله يغلب جانب الطاعة، خصوصًا وأنه علم أنه إن غلب جانب المعصية في بعض الأحيان أمكنه العودة إلى طريق الطاعة ثانية؟!
ولِمَ لا يحملها وهو المؤهل جسديًا لأداء العبادة، بخلاف غيره من الكائنات التي لا تستطيع أن تركع وتسجد وتقوم وتقعد؟!
ولِمَ لا يحملها، وهو المؤهل لقيادة مكان التكليف وهو الأرض، فكل ما على ظهر البسيطة يخضع له ويطيعه؟!
ولِمَ لا يحملها وفي أدائها الفوز العظيم ورؤ ية الملك الجميل وعطاء المنان الكريم؟!
ولِمَ لا يحملها وهو الذي وعد بالإعانة على حفظ الأمانة؟! قال تعالى: وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3]، ومن استعان بالله نجاه، ومن فوض إليه الأمر كفاه، ومن لاذ به قواه.
ولِمَ لا يحملها وهو الذي نظر إلى "جانب المكلف وقال: المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها؟! (تفسير الرازي).
كل هذا وغيره حض الإنسان على قبول العرض الإلهي الذي فيه الفوز بالجنان إن حفظ أمانة الرحمن.
والأمانة تستدعي مُؤَمِّنًا، والمُؤَمِّن هنا هو الله جل وعلا وأعظم بأمانة مؤمنها رب العالمين، وتستدعي مؤتمنًا، والمؤتمن هنا هو الإنسان ولما كان أكثر بني آدم قد خانوا الأمانة بخيانتهم لله وللرسل عليهم السلام حكم الله جل ثناؤه على الإنسان بأنه: كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب: 72]، ظلومًا لنفسه، جهولًا بانتقام ربه وعاقبة عصيانه.
لكن لما كان هذا الحمل الثقيل بهذه المكانة قال الله: لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 73].
فلا تخف يا خائن الأمانة فباب التوبة مفتوح، فعد إلى الأمانة فصنها واحفظها ولا تضيع الوديعة ولا تعبث بها أو تضعها في غير موضع حفظها.
واعلم: أن اللصوص ينتظرون لحظة غفلتك للانقضاض على الأمانة وسلبها كلها أو بعضها، فإذا لم تغلق الأبواب وتوقظ الحراس حاموا حول الحصن المنيع لسرقة الوديعة، وقد ينام الحارس فيفتح العدو الباب، فربما أفاق الحراس، بعد أن أخذ من الأمانة شيئًا صغيرًا، وهذا ليس فيه كبير أذى وعذاب؛ لأن المؤمن قد عفا وتجاوز عن صغير الذنب أو كبيره إن صحت التوبة وصدقت العودة، أما إن يسر المؤتمن للعدو سرقة الأمانة فضاعت فإنها لن تعود، ورجوعها عسير.
ويا لخسارتك وخيبتك إن سلبت الأمانة كلها، فإن ربك صاحب الأمانة أقسم ليذيقنك أليم عذابه وشديد عقابه.
والنوع الثاني من الأمانة:
أمانة الودائع، وهي من أخطر الواجبات التي تركها كثير من المسلمين.
هذه الأمانة صفة من صفات المؤمنين قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 1 - 11].
وقال تعالى: إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ [المعارج: 19 - 35].