وُصُول الحملة النظاميَّة إلى القُسطنطينيَّة
عدل
بعد قيام حملة الفُقراء كانت الاستعدادات تجري في الغرب الأوروپي لِتحرُّك الجُيُوش النظاميَّة بِاتجاه الشرق، وقوامها الأُمراء الإقطاعيُّون في فرنسا وإيطاليا والنورماندي. وطبيعي أن يكون أفراد هذه المجموعة أكثر تقديرًا لِخطَّة سيرهم بعد الاستعدادات بِالسلاح والأموال والرجال والعتاد، والاتصال مُسبقًا بِأُمراء ومُلُوك وحُكَّام النواحي الذين سيمُرُّون بِأراضيهم حتَّى يمُدُّوا يد المُساعدة لهم.[40] وتعدَّدت قيادات هذه المجموعة، فلِكُلِّ قائدٍ رجاله وجُندُه، كما اختلفت أهواؤهم واتجاهاتهم وسياساتهم، وكانوا على تبايُنٍ في نظرتهم إلى مفهوم الحركة الصليبيَّة، ممَّا جعل تلك الحملة في حقيقة أمرها عبارة عن عدَّة حملات رُبما عملت أحيانًا في اتجاهاتٍ مُعارضة.[41]
توافُد جُيُوش النُبلاء وتقسيمها
عدل
خريطة تُصوِّرُ مسير جُيُوش الحملة الصليبيَّة الأولى.
مُنمنمة أوروپيَّة تعود لِلقرن الثالث عشر الميلادي تُصوِّرُ هيوج قُمَّس فرماندوة (وسط اليمين) بين يدي الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين.
تُقدِّر أبحاثٌ مُعاصرة أنَّ أعداد المُقاتلين الذين غادروا أوروپَّا الغربيَّة بعد مجمع كليرمونت تتراوح بين 70,000 و80,000 مُقاتل، انضمَّ إليهم مزيدًا من الرجال الذين اصطحب بعضهم أهله وعياله، خلال السنوات الثلاث لِلحملة. وتُفصِّل تلك الأبحاث أعداد الصليبيين على الشكل التالي: ما بين 7,000 و10,000 فارس، وما بين 35,000 إلى 50,000 راجل، وما بين 60,000 إلى 100,000 شخص من غير المُحاربين.[la 21] أمَّا تقسيم تلك الجُيُوش ومسيرها فكان على الشكل التالي:
الجيش الأوَّل: كان على رأسه هيوج قُمَّس فرماندوة (بالفرنسية: Hugues de Vermandois)، وهو الابن الأصغر لِهنري الأوَّل ملك الفرنجة وشقيق فيليپ الأوَّل كما أُسلف،[la 22] وكان يطمع في أن يحصل في الشرق على السُلطة والأموال ما يُلائم أصالة نسبه، والراجح أنَّ أخاه فيليپ هو الذي شجَّعهُ على الاشتراك بِالحملة الصليبيَّة كي يلتمس الرضا من البابويَّة،[40] في حين نصَّت مصادر لاتينيَّة عائدة لِتلك الفترة أنَّهُ قرَّر المُشاركة بعدما شهد خُسُوفًا لِلقمر ليلة 11 شُباط (فبراير) 1096م، فاعتبر ذلك إشارةً إلهيَّة.[la 23] ويبدو أنَّ هيوج هذا كان أوَّل الأُمراء الصليبيين المُغادرين، كما كان أوَّلهم وُصُولًا إلى الأراضي البيزنطيَّة. فقد ارتحل من فرنسا إلى إيطاليا في رمضان 489هـ المُوافق لِآب (أغسطس) 1096م، على رأس جيشٍ صغيرٍ من أتباعه وبعض الفُرسان من ضياع أخيه، وأرسل رسولًا خاصًّا إلى القُسطنطينيَّة يحملُ رسالةً تفيضُ غطرسةً وغُرُورًا، ويطلب من الإمبراطور أن يُقابله بما يليق بِمكانته السامية،[40] فقال:[la 24]
الحملة الصليبية الأولى اعْلَمْ أَيُّهَا الْإمْبرَاطُورُ أَنَّنِي مَلِكُ الْمُلُوكِ، أَعَظْمُ مَا تَحْتَ السَّمَاءِ. مِنَ الْمُنَاسِبِ أَنْ أُلَاقَى فَوْرَ وُصُولِي وَأُسْتَقْبَلَ بِأُبَّهَةٍ وَحَفْلٍ يُلَائِمُ نِسْبِي النَّبِيلِ الحملة الصليبية الأولى
واجتاز هيوج وأتباعه روما وبلغوا ثغر باري في أواخر شوَّال المُوافق لِأوائل تشرين الأوَّل (أكتوبر)، وأرسل من هذه المدينة وفدًا من أربعةٍ وعشرين فارسًا إلى دراست أخطر حاكمها الدوق يوحنَّا كومنين ابن أخي الإمبراطور بِأنَّهُ على وشك الوُصُول، وكرَّر طلبه بِما ينبغي الاحتفال بِاستقباله.[40] ويبدو أنَّ الإمبراطور البيزنطي استُفزَّ بمُحتوى هذه الرسالة، وتخوَّف من تكرار تجربة حملة الفُقراء، فأرسل إلى ابن أخيه وقائد أُسطُوله أن يُعلماه بِوُصُول الصليبيين ما إن يظهروا في البلقان.[la 24] وما أن أبحر هيوج برجاله من باري حتَّى ضربت أُسطُوله الصغير عاصفة بحريَّة أغرقت بعض السُفُن بِكُلِّ ما عليها من الرُكَّاب، فانتشلهُ الدوق يُوحنَّا حاكم دراست مع قادته ومن نجا من أتباعه وزجَّ بهم في السجن، ثُمَّ أرسلهم إلى القُسطنطينيَّة كي يقضي فيهم الإمبراطور بِما يشاء، فحبسهم حينًا بِانتظار وُصُول القادة الباقين، فإذا قُدِّر لهم النجاح في الحُضُور أطلق سراح هيوج ومن معه، أمَّا إن كان الأمر غير ذلك فسيُبقيهم أسرى طول حياتهم.[42]
لوحة جصيَّة في قلعة مانتة بشمال إيطاليا، تُصوِّرُ گودفري البويني.
الجيش الثاني: تلا وُصُول هيوج قُمَّس فرماندوة إلى القُسطنطينيَّة، وُصُول گودفري البويني (بالفرنسية: Godefroy de Bouillon) دوق لوثارينجيا الواطئة، ورافقهُ أخوه بلدوين البولوني (بالفرنسية: Baudouin de Boulogne) فضلًا عن عددٍ آخر من كبار الأُمراء.[la 25] ويبدو أنَّ المكانة البارزة التي تمتَّع بها گودفري في الإمبراطوريَّة الرومانيَّة المُقدَّسة، وأهميَّة الإمارات التي شارك أصحابها في تلك الحملة جعلت لها مكانة خاصَّة دفعت كثيرًا من الفُرسان إلى الانضمام إليها، فاكتسبت طابعًا مُميزًا من أوَّل الأمر.[la 26] هذا مع مُلاحظة أنَّ مُعظم المُشتركين في هذه الحملة كانوا من القطاع الإفرنجي في الإمبراطوريَّة الرومانيَّة المُقدَّسة، ولم يكن من القطاع الألماني سوى القليل، ممَّا جعل الطابع العام لِحملة گودفري البويني إفرنجيًّا، وقد ظهر أثر ذلك عندما استقرَّ أولئك الصليبيُّون بالشَّام، إذ سُرعان ما ذبلت العلاقات الإقطاعيَّة التي ربطتهم بإمبراطور الرومانيَّة المُقدَّسة، وأقاموا مَلَكيَّة جديدة في بيت المقدس وفق النُظُم والتقاليد الإفرنجيَّة.[la 27]
وآثر گودفري ألَّا يسلك الطريق الذي يجتاز إيطاليا كي يتجنَّب الحرج في علاقاته مع البابويَّة نظرًا لِأنَّهُ كان من أنصار إمبراطور الرومانيَّة المُقدَّسة هنري الرابع الذي كان بِدوره على خلافٍ معها مُنذُ سنة 1076م، نتيجة النزاع حول أحقيَّة أي الجهتين في تنصيب الأساقفة والمطارنة في الإمبراطوريَّة الرومانيَّة المُقدَّسة.[la 28] لِذا سلك هذا القائد الطريق الذي يجتاز بلاد المجر وبُلغاريا عبر بلغراد - نيش - أترالسة - فيلپَّة - أدرنة، في الوقت الذي كان المجريُّون ما يزالون يحملون كثيرًا من الحقد والضغينة لِلصليبيين بعد الضرر الذي لحق بهم على أيدي جُمُوع بُطرس الناسك ورُعاع حملة الفُقراء.[la 29] لِذلك رأى گودفري أن يُبدِّد تلك المخاوف عند المجريين قبل أن يعبر بلادهم، فعقد اجتماعًا مع الملك كولومان بن گزاي على الحُدُود المجريَّة الألمانيَّة. وفي ذلك الاجتماع قدَّم گودفري أخاه بلدوين لِيظلَّ رهينةً لدى الملك المجري حتَّى يتم انتقال قُوَّاته عبر الأراضي المجريَّة. وفي الوقت نفسه أصدر گودفري أوامر مُشدَّدة لِرجاله لِيحول بينهم وبين أعمال النهب والعدوان على الأهالي أو مُمتلكاتهم.[la 30] وبِفضل جُهُود التنظيم والاتفاق المُسبق هذا سار جيش گودفري إلى القُسطنطينيَّة دون أن يُواجه متاعب، فلمَّا جاوز أدرنة بلغهُ أنَّ هيوج الفرماندوي قد زُجَّ في السجن مع ثُلَّةٍ من رفاقه النُبلاء، فأرسل على جناح السُرعة عددًا من الرُسُل إلى الإمبراطور ألكسيوس لِلإلحاح عليه بِضرورة إطلاق سراح هؤلاء، ويلومه على ما أنزله بهم «وهُم الذين وهبوا أنفُسهم لِرحلة الحج نفسها».[42] وبِحسب وليم الصوري فإنَّ الإمبراطور رفض طلب گودفري، فما كان من الأخير إلَّا أن أذن لِعسكره بِنهب نواحي أدرنة، فدمَّروها دمارًا شاملًا على مدى ثمانية أيَّام، وما كادت أنباء ما فعلوا تصل إلى سمع الإمبراطور حتَّى بعث رُسُلًا من لدُنِّه إلى گودفري يرجوه أن يكف أيدي جُنده عن أعمال التخريب هذه مُؤكدًا لهُ أنَّهُ سيستجيب لِرجائه ويُطلق سراح النُبلاء الذين في حبسه، فقبل گودفري هذا الإجراء وأمر جُنده بِالتوقُّف عن مُتابعة السلب والنهب، ثُمَّ سار إلى القُسطنطينيَّة،[42] فوصلها في 5 مُحرَّم 490هـ المُوافق فيه 23 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1096م، وعسكر خارجها في الطرف الشمالي لِلقرن الذهبي بناءً على طلب الإمبراطور، الذي أرسل إليه هيوج الفرماندوي يدعوه لِزيارته.[40]
والحقيقة إنَّ الإمبراطور البيزنطي كان يرمي من وراء هذه الدعوة أن يضمن سيطرته على گودفري وجُنُوده مُدركًا أنَّ قُوَّته من المُمكن أن تجعله شديد الخُطُورة على الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة ومصالحها،[la 31] فطلب مُنهُ أن يُقسم لهُ يمين الولاء، بِمعنى أن يكون القائد الصليبي تابعًا لِلإمبراطور الرومي في الأراضي الآسيويَّة التي عساه ينجح في استردادها من المُسلمين.[43] غير أنَّ گودفري رفض الدعوة بِحُجَّة أنَّهُ حلف يمين الولاء لِلإمبراطور هنري الرابع، وأنَّ هذا اليمين يمنعهُ من أن يحلف يمينًا أُخرى لِلإمبراطور البيزنطي، كما أصرَّ على ألَّا يلتزم بِشيءٍ إلَّا بعد انضمام سائر القادة الصليبيين إليه. عندئذٍ شدَّد ألكسيوس كومنين الضغط على القائد الصليبي بِمنع المُؤن عن جيشه،[40] فما كان من الأخير إلَّا أن اتفق مع أُمرائه وقادته بِاجتياح القُرى والبلدات من نواحي القُسطنطينيَّة بِجماعاتٍ مُسلَّحةٍ كبيرة، فنهبوها وأحرقوها وعادوا يسوقون أمامهم قُطعان الأبقار والأغنام التي غنموها.[42] ولمَّا رأى الإمبراطور ردَّة الفعل الصليبيَّة هذه عدل بسُرعةٍ عن قراره، وسمح لهم بالإقامة في ضاحية پيرا -من ضواحي القُسطنطينيَّة (شمال القرن الذهبي)- حتَّى يحتموا بها من قسوة الشتاء من ناحية، وحيثُ يسهُل على الإمبراطور مُراقبتهم والإشراف عليهم من ناحيةٍ أُخرى. ومكث الصليبيُّون في الضاحية المذكورة طوال الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 1097م دون أن يقبل گودفري تأدية يمين الولاء لِلإمبراطور أو حتَّى مُقابلته، فضاق الأخير ذرعًا، ومنع التموين عن الصليبيين مرَّةً أُخرى، الأمر الذي أدَّى إلى صدامٍ عسكريِّ بين الطرفين هُزم فيه الصليبيُّون، ممَّا جعل گودفري يُدرك حقيقة قُوَّته، فلم يجد بدًّا من مُسالمة الإمبراطور، فقصد قصره حيثُ قدَّم ولاءَه واعترف بِألكسيوس كومنين سيدًا على جميع البلاد التي سيأخذها من المُسلمين، وأن يرُدَّ إليه جميع البلاد التي كانت تابعة لِلإمبراطوريَّة البيزنطيَّة وضاعت منها بسبب الفُتُوحات الإسلاميَّة.[40][43]
حُدُود الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة سنة 600م، خلال حُكم السُلالة الهرقليَّة. رغب الروم بِاستعادة حُدُودهم هذه بِمُعاونة الصليبيين من خلال الاتفاقيَّة التي أبرمها معهم ألكسيوس كومنين.
وهكذا جاءت تلك الاتفاقيَّة التي تمَّت في شهر نيسان (أبريل) 1097م واضحةٌ حاسمة، ممَّا جعل الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة تعتمد عليها وتتمسَّك بها في المُطالبة بِحُقُوقها من الصليبيين طوال القرن الثاني عشر الميلادي، والحقيقة إنَّ هذه الاتفاقيَّة ولَّدت مُشكلةً في العلاقة بين الروم والصليبيين، إذ إنَّ الإمبراطوريَّة اختارت ألَّا تُفسِّرها في ضوء ما كان لها من مُمتلكاتٍ في القرن الحادي عشر الميلادي -على عهد باسيل الثاني- وإنما في ضوء ما كان لِلإمبراطوريَّة قديمًا من أملاكٍ واسعةٍ في الشرق على عهد الإمبراطور جستنيان، أي لم ترغب فقط باسترداد جميع البلاد الواقعة في الأناضول، بل تلك الواقعة في أطراف الشَّام والعراق مثل أنطاكية والرُّها إضافةً إلى الشَّام نفسها.[43] وعلى الرُغم من أنَّ يمين الولاء الذي أقسمه گودفري جعل منه -ولو من الناحية الأدبيَّة- تابعًا لِلإمبراطور البيزنطي، إلَّا أنَّهُ كان كارهًا لِاتّباعه حاكمًا غير إمبراطوره، لا سيَّما وأنَّهُ كاثوليكي زحف تنفيذًا لِدعوة البابا، بينما ألكسيوس كومنين هو حامي الكنيسة الأرثوذكسيَّة التي تُخاصم البابويَّة وبينها وبين الكاثوليك شقاقٌ ونُفُور، لِذلك أخذ يتحيَّن الفُرص لِلتملُّص من يمينه هذا. وأغدق الإمبراطور البيزنطي الدوق گودفري بِالهدايا الثمينة والخُيُول المُطهَّمة، كما غالى في إمداد جيشه بِالإمدادات السخيَّة. وفي 25 ربيع الآخر 490هـ المُوافق فيه 10 نيسان (أبريل) 1097م أمر ألكسيوس كومنين بِنقل گودفري وجيشه إلى الشاطئ الآسيوي بانتظار بقيَّة القادة الصليبيين، فما كاد يتمُّ نقلهم حتَّى وصل الجيش الثالث.[43]
الجيش الثالث: تولَّى بوهيموند الأطرانطي النورماني (باللاتينية: Boamundus Tarentinus) -الابن الأكبر لِروبرت جيسكارد دوق قلورية وأبوليا- قيادة هذا الجيش، وصحبه ابن أخيه تانكرد، وتألَّف من المُقاتلين النورمان الأشدَّاء. والواقع إنَّ النورمان لم يحفلوا في بادئ الأمر بِدعوة البابا أوربان الثاني إلى الحملة الصليبيَّة نظرًا لِاستمرار الحُرُوب الأهليَّة بينهم في جنوبيّ إيطاليا، فقد تنازع بوهيموند مع أخيه الأصغر روجر بورسا بِشأن وراثة والدهما،[la 32] إذ ورث الأخير أملاك النورمان في جنوبيّ إيطاليا، وكان على بوهيموند أن يحصل على المناطق الواقعة شرق البحر الأدرياتيكي، وهي طارنت وأورية وأطرانط وأبرنطس وواري،[la 33] لكنَّهُ لم يحظَ بِشيءٍ بِسبب الحرب التي نشبت بين النورمان والبيزنطيين في سنة 478هـ المُوافقة لِسنة 1085م، لِذلك رغب بِالاستعاضة عنها في مكانٍ آخر.[44] وعندما وصل جيش هيوج الفرماندوي إلى إيطاليا في طريقه إلى الشرق أدرك بوهيموند أهميَّة الحركة الصليبيَّة وأنَّهُ يصح الاستفادة منها لِلتعويض عمَّا حُرم منه،[la 34] وهو الذي اتُّصف بالجشع وفساد الضمير واكتسب الكثير من طُمُوح النورمان إلى السُلطة، فاستغلَّ الفكرة الدينيَّة لأغراضه، ووزَّع بيده صُلبانًا من قُماشٍ على أصحابه عندما قرَّر المُشاركة في الحملة الصليبيَّة أثناء حصار أمالفي التي ثارت على الحُكم النورماني.[44] وما اتصف به الصليبيُّون الفرنجة من الحماس أثار الجُنُود النورمان الذين لقوا التشجيع من زعيمهم بوهيموند، فأعلن هذا أنَّهُ سيشترك في الحملة الصليبيَّة، ودعا المُؤمنين المسيحيين لِلحاق به، فانضمَّ إليه نورمان صقلية وفرنسا، والتفَّ حوله عددٌ من الجُند كانوا أقل من أتباع گودفري على أنَّهم فاقوهم في عدَّتهم وتدريبهم،[44] وتُقدِّر أبحاثٌ مُعاصرة أعدادهم بِقُرابة خمسُمائة فارس وما بين 2,500 و3,500 راجل إضافةً إلى 2,000 جُندي من أتباع تانكرد.[la 35]
لوحة تخيُّليَّة تُصوِّرُ بوهيموند الأطرانطي تعود لِسنة 1843م، بِريشة الرسَّام الفرنسي ميري جوزيف بلونديل (بالفرنسية: Merry-Joseph Blondel).
رسمٌ تخيُّلي يعود لِسنة 1843م يُصوِّرُ ريموند الرابع قُمَّس طولوشة وصنجيل، بِريشة الرسَّام الفرنسي ميري جوزيف بلونديل.
مُنمنمة لِروبرت قُمَّس النورماندي.
أبحر بوهيموند بِجيشه من باري في شوَّال 489هـ المُوافق فيه تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1096م، ونزل في إقليم إپيروس على الشاطئ الشرقي، وسلك الطريق القديم غير المألوف إلى القُسطنطينيَّة المُسمَّى «طريق أغناتيا» كي يتجنَّب إشراف البيزنطيين ورقابتهم.[44] وبِفعل شدَّة صرامته في حفظ النظام ورغبته في الظُهُور أمام الإمبراطور بِمظهرٍ طيِّب؛ منع أفراد جيشه من التعدِّي على السُكَّان ونهب القُرى والمُدن التي يجتازون، فلم تحدثِ اصطدامات مع الحاميات البيزنطيَّة، وزُوِّد الصليبيُّون بِالمُؤن دون حُدُوث مُشكلات.[la 36] وحدث أن ترك بوهيموند جيشه تحت قيادة تانكرد وأسرع إلى القُسطنطينيَّة كي يقف على ما يجري من مُفاوضاتٍ بين الإمبراطور والقادة الغربيين الذين سبقوه، ويُعبِّر عن إخلاصه ونواياه الطيِّبة، فوصل إليها في 15 ربيع الآخر 490هـ المُوافق فيه 1 نيسان (أبريل) 1097م، ولحقه جيشه بعد أُسبُوعٍ تقريبًا.[44] والحقيقة أنَّ حملة بوهيموند النورمانيَّة كانت تُثيرُ فزع البلاط البيزنطي أكثر من حملة گودفري، بِسبب أنَّ النورمان بالذات لهم سوابق خطيرة في الهُجُوم على الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، فضلًا على أنَّ هذه الحملة جاء على رأسها ابن روبرت جيسكارد الذي ما زالت مُحاولته غزو الأراضي الروميَّة وتهديد القُسطنطينيَّة نفسها سنة 1081م ماثلة في أذهان البيزنطيين.[43] لكنَّ بوهيموند فطن لِهذا، فكان أن ضبط جُنُوده ومنعهم من الاعتداء على الأهالي كما أُسلف، وتوجَّه لِمُقابلة الإمبراطور بِمُفرده لِيُهدِّئ من روعه، مُدركًا أنَّ الوقت غير مُلائم لِلقيام بِمُحاولةٍ توسُّعيَّةٍ على حساب الروم في البلقان،[45] علمًا بأنَّهُ كان اقترح على گودفري في مُراسلةٍ سابقةٍ أن يتعاونا على نهب جُزُر بحر إيجة والقُسطنطينيَّة، لكنَّ الأوَّل رفض.[la 34][la 36]
وكان أن تمَّت المُقابلة بين بوهيموند والإمبراطور ألكسيوس في جوٍ مُشبعٍ بِالودِّ والتفاهم، وسُرعان ما أقسم بوهيموند يمين الولاء لِلإمبراطور وأعلن تبعيَّته له، فغمره -هو الآخر- بِالأموال والهدايا الثمينة، لِلحد من أطماعه ونشاطه في الشرق، لأنَّ كُلَّ ما سيُسيطر عليه من بلادٍ سيكون باسم الإمبراطور البيزنطي، لكنَّ بوهيموند أدرك غاية الإمبراطور ورأى أن يحتاط لِنفسه ومُستقبله، فطلب من ألكسيوس منحه إقطاعًا كبيرًا في إقليم أنطاكية، فلبَّى الإمبراطور طلبه، ووعده بِمنطقةٍ واسعةٍ حول أنطاكية طولها مسيرة خمسة عشر يومًا وعرضُها مسيرة ثمانية أيَّام. وطلب بوهيموند أيضًا أن يُعيَّن دُمُسْتُقًا لِلشرق، أي قائدًا عامًّا لِلقُوَّات البيزنطيَّة في آسيا، لكنَّ الإمبراطور لم يُمكنه تحقيق ذلك الطلب بِحُكم تشكُّكه في الصليبيين عامَّةً والنورمان خاصَّةً، ولِذلك أجاب بوهيموند بأنَّ الوقت لم يحن بعد لِلبت في ذلك الموضوع وأنَّهُ يُمكن لبوهيموند أن يصل إلى تحقيق رغبته هذه عن طريق إثبات حُسن نيَّته وولائه.[45] وبعد انتهاء المُشاورات والمُفاوضات بِشأن الترتيبات المُستقبليَّة المذكورة استُدعي جيش بوهيموند إلى القُسطنطينيَّة، ونُقل أفراده إلى البر الآسيوي في 11 جُمادى الآخرة المُوافق فيه 6 نيسان (أبريل)، فانضمُّوا إلى جيش گودفري على مقرُبةٍ من خلقدونية.[44][46]
الجيش الرابع: تولَّى قيادة هذا الجيش ريموند الرابع قُمَّس طولوشة وصنجيل (بالفرنسية: Raymond IV de Toulouse et Saint-Gilles)، وتألَّف جيشه من فُرسان جنوبي فرنسا وپروڤنسة. وكان هذا القائد من أغنى الصليبيين، فحشد جيشًا كثير العدد،[44] وعيَّن ابنه برتراند على أملاكه أثناء غيابه،[la 37] واصطحب معهُ زوجته ألڤيرا القشتاليَّة (بالفرنسية: Elvire de Castille) ووريثه ألفونسو، ورافقه المندوب البابوي أدهمار اللوپويئي. انطلقت هذه الحملة في شوَّال 489هـ المُوافق فيه تشرين الأوَّل 1096م، وانضمَّ إليها عددٌ كبير من نُبلاء جنوبي فرنسا، فعبرت جبال الألب واخترقت شمالي إيطاليا حتَّى رأس البحر الأدرياتيكي، ثُمَّ التزمت الطريق البرِّي الذي يجتاز إستريا ودلماسيا (شرق الأدرياتيك)، وسلكت طريق أغناتيا.[44] وصل الجيش إلى الحُدُود البيزنطيَّة شماليّ دراست في شهر ربيعٍ الأوَّل 490هـ المُوافق فيه شُباط (فبراير) 1097م، فاستقبلهم الدوق يوحنَّا كومنين، وكان بانتظارهم أفرادٌ من الحرس البُشناق لِيصحبوهم إلى القُسطنطينيَّة. وأرسل ريموند في غُضُون ذلك سِفارةً إلى العاصمة الروميَّة لِيُعلن عن قُدُومه، ثُمَّ سبق جيشه ووصل إليها في 6 جُمادى الأولى المُوافق فيه 21 نيسان (أبريل)، في حين وصل الجيش بعد ستَّة أيَّام.[44] وما لبث الإمبراطور البيزنطي أن دعا ريموند لِلمُثُول أمامه، وطلب منهُ أن يحلف يمين الولاء لهُ أُسوةً بِالقادة الذين سبقوه. وهُنا وجد ريموند نفسهُ في مركزٍ لا يُحسد عليه، ذلك أنَّهُ كان يطمح في الحُصُول على زعامة الصليبيين جميعًا في الشرق بِحُكم صلته بالبابويَّة ومُرافقة المندوب البابوي لِحملته، وهو شرفٌ لم تحظَ به سائر الجُيُوش الصليبيَّة، ولكنَّ هذه الزعامة التي اعتمدت على تأييد البابويَّة لا يُمكن أن تتفق ويمين الولاء لِلإمبراطور البيزنطي راعي الكنيسة الأرثوذكسيَّة.[45]
أضف إلى ذلك رأى ريموند أنَّ قسمه هذا سيهبط به إلى مُستوى القادة الآخرين، ولمَّا علم بِأنَّ بوهيموند نجح في اكتساب صداقة الإمبراطور البيزنطي وتأييده، وسعيه إلى أن يُصبح دمستقًا لِلشرق، خشي بأن يُؤدي قسمه إلى أن يجد نفسه خاضعًا لِغريمه النورماني بِوصفه مُمثلًا لِلإمبراطور؛ ما زاده تمسُّكًا بِرأيه، وأعلن أنَّهُ لم يحمل الصليب لِيخضع لِسيِّدٍ غير المسيح، ولم يُغادر بلاده لِيُحارب من أجل سيِّدٍ غير السيِّد المسيح. وأضاف أنَّهُ سينضوي تحت لواء الإمبراطور إذا قاد الجُيُوش المسيحيَّة بِنفسه. وسُرعان ما تأزَّم الموقف بين ريموند من جهة والإمبراطور ألكسيوس من جهةٍ أُخرى، ممَّا أنذر بِحُدُوث صدامٍ مُسلَّحٍ بين الطرفين لولا سعي كُلٍّ من گودفري والمندوب البابوي أدهمار لِترطيب الأجواء بين الرجُلين، فوافق ريموند على أن يُعدِّل في صيغة القسم بِأن وعد بِاحترام وتبجيل حياة الإمبراطور وشرفه وأنَّهُ يحرص ألَّا يُصيبه ضررٌ من جانبه ومن جانب رجاله، فاكتفى ألكسيوس كومنين بِذلك وأقرَّه، وبعد انتهاء المُفاوضات عبر مع قُوَّاته إلى الجانب الآسيوي.[47][48]
الجيش الخامس: كان هذا الجيش تحت قيادة كُلٍ من روبرت قُمَّس النورماندي، وهو الابن الأكبر لِملك إنگلترا وليم الفاتح، وصهره أسطفان قُمَّس بلوة، وابن عمِّه روبرت الثاني قُمَّس الفلمنك، وتألَّف من الفُرسان القادمين من غربي فرنسا والنورماندي وبعض مناطق الشمال فضلًا عن الكثير من الفُرسان الإنگليز من أتباع الملك وليم الأصهب أخي روبرت.[49] انطلقت الحملة من فرنسا في شهر ذي الحجَّة 489هـ المُوافق فيه تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1096م، فعبرت جبال الألب إلى إيطاليا والتقى أفرادها بِالبابا أوربان الثاني في لُكَّة،[49] حيثُ حصلوا على مُباركته. وأقلع هذا الجيش من أبرنطس إلى البلقان في أوائل شهر نيسان (أبريل) 1097م، فرسا في دراست ومنها زحف مُخترقًا البلقان إلى القُسطنطينيَّة، فوصلها في جُمادى الأولى 490هـ المُوافق فيه أيَّار (مايو) 1097م.[49] ويبدو أنَّ ألكسيوس كومنين لم يُواجه من تلك الحملة متاعبَ وصُعُوباتٍ مثلما لاقى من الحملات السابقة. ولم يُمانع قادة هذه الحملة مُطلقًا في أن يقسموا يمين الولاء والتبعيَّة لِلإمبراطور البيزنطي، ولِذا حرص الأخير على أن يُغدق عليهم وعلى رجالهم الإمدادات والمُؤن والإنعامات فضلًا عن الأموال والخُيُول المُطهَّمة. وبعد أن قضى هؤلاء الصليبيُّون أُسبوعين في القُسطنطينيَّة، عبروا البوسفور إلى آسيا الصُغرى، وأسرعوا اللحاق بِبقيَّة الصليبيين الذين كانوا قد شرعوا فعلًا قي حصار نيقية.[47]
السياسة البيزنطيَّة تجاه الصليبيين
عدل
القادة الصليبيُّون يعبرون مضيق البوسفور على متن سُفُنٍ روميَّة.
لم يتوقَّع الإمبراطور الرومي ألكسيوس كومنين وُصُول هذه الأعداد الضخمة من المُقاتلين الغربيين، إذا اعتقد بدايةً أنَّ الغرب سيمُدُّهُ بِفرقٍ من المُرتزقة محدودة العدد الذي تعوَّد البيزنطيُّون أن يُجنِّدوهم في خدمتهم، ولمَّا كان عاجزًا على أن يفعل شيئًا تجاه هذا الأمر فإنَّهُ قرَّر أن يتعايش مع الواقع ويُفيد من الموقف بأفضل المكاسب، فاتخذ من التدابير ما كفل لهُ ذلك، فلم يسمح سوى لِلقادة وعددٍ قليلٍ من مُرافقيهم دُخُول عاصمته، ومن ثُمَّ ضرب الصليبيُّون خيامهم في ضواحيها، وحرص على أن يستعرض أمامهم عظمة الإمبراطور البيزنطي بِهدف إبراز مظاهر الثراء والفخامة التي تميَّزت بها الإمبراطوريَّة، وكان رونق المراسم الملكيَّة حاضرًا لدى استقبالهم، ولا شكَّ بِأنَّهم بُهروا بِمظاهر الحضارة الروميَّة لِأنَّهم لم يلمسوا شيئًا من ذلك في الغرب الأوروپي. وعمد ألكسيوس كومنين إلى إغداق الهدايا عليهم لِيستقطبهم، وقد ترك ذلك أثرًا عند أسطفان البلوائي على الأقل.[50]
إلَّا أنَّ هذا لم يحجب الصعوبات السياسيَّة التي نشأت نتيجة وُصُول الصليبيين، غير أنَّ وسيلة الضغط في يد ألكسيوس كومنين تمثَّلت في أنَّهُ الوحيد الذي يملك السُفُن الكافية لِنقل الجُيُوش الصليبيَّة عبر البوسفور في الوقت الذي لم يكن بِوسعه الانتظار طويلًا لِنقلهم، فقد حتَّمت عليه مصلحته أن ينقل أقسام الجُيُوش إلى آسيا الصُغرى على وجه السُرعة بعد وُصُولها، حتَّى لا يزداد عدد القُوَّات كثيرًا في ضواحي العاصمة ما يُسبِّب مُشكلاتٍ أمنيَّةٍ وتموينيَّة.[50] ومن الواضح أنَّ ألكسيوس كومنين أراد أن يطَّلع على نوايا الصليبيين فيما يتعلَّق بِالأراضي التي سيستولون عليها في الشرق، وبِخاصَّةً تلك التي كانت داخلة في نطاق الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة قديمًا. وقد حافظ على مصالحه من خلال فكرة اليمين الإقطاعي المعروفة في المُجتمع الغربي لِتثبيت حُقُوقه على كثيرٍ من البلاد التي ستُنتزع من أيدي المُسلمين.[50]
ومع ذلك، فإنَّ ألكسيوس كومنين لم يكن ساخطًا، وإذ توجَّهت الجُيُوش الصليبيَّة مُجتمعةً لِقتال المُسلمين بَعُدَ الخطر عن القُسطنطينيَّة، وعزم على أن يتعاون مع الصليبيين بِإخلاصٍ بِشرط ألَّا يُضحِّي بِمصالح الإمبراطوريَّة في سبيل مصالح فُرسان الغرب، وأنَّ واجبه نحو قومه الروم يأتي في المقام الأوَّل، يُضاف إلى ذلك أنَّهُ لم يختلف عن كُل البيزنطيين في الاعتقاد بِأنَّ سعادة العالم المسيحي تتوقَّف على سعادة الإمبراطوريَّة المسيحيَّة العتيقة، التي هي استمرارٌ لِلإمبراطوريَّة الرومانيَّة.[50]
معارك الصليبيين في الأناضول
عدل
Crusades and contemporary Islamic countries-ar.svg
حصار وسُقُوط نيقية
عدل
المقالة الرئيسة: حصار نيقية
خريطة تُصوِّرُ مسار القادة الصليبيين عبر آسيا الصُغرى.
تجمَّعت الجُيُوش الصليبيَّة كُلِّها على الشاطئ الآسيوي قُرب سميرنة حيثُ حضر بُطرس الناسك لِمُقابلة الأُمراء ومعهُ حُطام حملة الفُقراء. وهُناك اتُفق على أن يبدأ الصليبيُّون بِالهُجُوم على مدينة نيقية، عاصمة دولة سلاجقة الروم. ومن الواضح أنَّ الصليبيين كانوا لا يستطيعون المضي في جوف آسيا الصُغرى تاركين خلفهم نيقية بِأيدي المُسلمين، ممَّا يُهددهم ويُهدِّد مُواصلاتهم مع الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة. لِذلك صدرت الأوامر إلى الجُنُود في أواخر شهر نيسان (أبريل) 1097م بِالزحف على نيقية لِاستخلاصها من السلاجقة. وقد أمدَّ الإمبراطور البيزنطي الصليبيين بِآلات الحصار والطعام والمُؤن، ولكن لم تشترك سوى فرقة صغيرة من القُوَّات البيزنطيَّة في حصار هذه المدينة قويَّة التحصين.[51] وفي ذلك الوقت كان قلج أرسلان مُتغيبًا عن عاصمته، حيثُ دخل في نزاعٍ في قبادوقية مع الدانشمنديين حول مدينة ملطية.[la 38] ويبدو أنَّ قلج أرسلان لم يهتم كثيرًا بِأنباء الحملة الصليبيَّة،[la 39] إذ ظنَّ أنَّ الأمر لا يعدو وُصُول بعض جُمُوعٍ أُخرى من العامَّة غير المُدرَّبين، من عيِّنة أتباع بُطرس الناسك الذين قضى عليهم السلاجقة في سُهُولةٍ تامَّة. أضف إلى ذلك، فإنَّ عُيُون الإمبراطور البيزنطي وجواسيسه أعطوا قلج أرسلان صورةً غير حقيقيَّة عن الخلافات المُستحكمة بين الإمبراطور من جهة والأُمراء الصليبيين من جهةٍ أُخرى، ممَّا جعل الملك السُلجُوقي يطمئن إلى أنَّ الصليبيين لن يصلوا بِأيِّ حالٍ إلى نيقية، بِدليل أنَّهُ ترك زوجته وأولاده وأمواله داخل أسوار المدينة ولم يُحاول نقلهم منها.[51]
وصلت الجُيُوش الصليبيَّة إلى العاصمة السُلجُوقيَّة في 21 جُمادى الأولى 490هـ المُوافق فيه 6 أيَّار (مايو) 1097م وعسكرت حول أسوارها، وضربت الحصار عليها باستثناء منطقتها الغربيَّة حيثُ توجد البُحيرة، وساعدهم جيشٌ بيزنطيٌّ بِقيادة تاتيكيوس، كما كان الإمبراطور يمُدُّهم تباعًا بِالإمدادات والمُؤن عن طريق البر والبحر. وحالت مناعة استحكامات المدينة بين المُحاصرين وبين مُهاجمتها فورًا، إذ أنَّ أسوارها التي امتدَّ طولها أربعة أميالٍ وارتفع عليها مائتان وأربعون بُرجًا بِالإضافة إلى المياه الضحلة التي أحاطت بها؛ شكَّلت عائقًا لم يتمكنوا من تذليله فورًا.[52][53] لم يُرسل قلج أرسلان في بادئ الأمر قُوَّةً عسكريَّةً نحو الغرب لِلتصدِّي لِلزحف الصليبي، وآثر البقاء في الشرق بِسبب النزاع مع الدانشمنديين حول مُلكيَّة ملطية، ولم يُبدِّل رأيه إلَّا عندما طلبت منهُ الحامية الإسراع لِنجدة المدينة، إذ على الرُغم من ضخامتها فإنَّها احتاجت إلى إمداداتٍ خارجيَّةٍ سريعة، فأرسل طليعةً عسكريَّة ثُمَّ لحق بها بعد أن فكَّ الحصار عن ملطية.[53] ولكنَّ طليعة الجيش السُلجُوقي لم تصل إلَّا بعد أن أحكم الصليبيُّون الحصار على المدينة، فلم تتمكَّن من الدُخُول في معركة، وانسحبت بعد مُناوشاتٍ فاشلةٍ وأخذت تترقَّب وُصُول قلج أرسلان مع جيشه الرئيس.[53] حاولت الحامية بعد اشتداد الحصار على المدينة، وتأخَّرت القُوَّة السُلجُوقيَّة المُساندة؛ تسليمها إلى الإمبراطور البيزنطي، على إثر مُبادرةٍ قام بها هذا الأخير، فأرسل أحد قادته، المدعو عمانوئيل بوتوميتس (باليونانية: Μανουὴλ Βουτουμίτης) لِيتفاوض في أمر التسليم، إلَّا أنَّ المُفاوضات توقَّفت عندما علمت الحامية بِنبأ قُرب وُصُول قلج أرسلان، فانسحب البيزنطيُّون فورًا.[la 40][la 41]
السلاجقة يُقاتلون الصليبيين على تُخُوم نيقية.
وصل قلج أرسلان إلى المدينة من جهة الجنوب، فبادر فورًا بِمُهاجمة الصليبيين المُحاصرين مُحاولًا بِذلك أن يشق له طريقًا يوصله إلى الداخل. ودارت بين الطرفين بعض المُناوشات استمرَّت يومًا واحدًا من دون أن يتمكَّن من ذلك، عندئذٍ آثر أن يترك المدينة تُواجه مصيرها، ثُمَّ انسحب إلى الجبال المُجاورة تاركًا لِلحامية حُريَّة التصرُّف.[53] استمرَّ الحصار خمسة أسابيع تعرَّض الصليبيُّون خلالها لِخسائر فادحة في الأرواح نتيجة المُناوشات اليوميَّة مع الحامية، وحتَّى يرفعوا معنويَّاتهم ويُضعفوا معنويَّات المُسلمين، عمد الصليبيُّون إلى قطع عددٍ كبيرٍ من رُؤوس الأسرى، وثبَّتوها على الحِراب، ثُمَّ رفعوها وطافوا بها حول أسوار المدينة قبل أن يقذفوها إلى الداخل.[54] أدَّت استحكامات المدينة بالغة المناعة دورًا بارزًا في إطالة أمد الحصار، كما أنَّ المُؤن التي كانت تدخل إليها عبر البُحيرة بِمُوافقة الإمبراطور البيزنطي رفعت معنويَّات المُحاصَرين. والرَّاجح أنَّ هذا الأخير أدرك صُعُوبة موقف الصليبيين فأراد أن يُثبت لِقادتهم أنَّ تعاونهم معه ضروري، وفعلًا اضطرَّ هؤلاء إلى التماس مُساعدته، وبناءً على طلبهم أمدَّهم بِأُسطُولٍ صغيرٍ منع وُصُول المُؤن إلى داخل المدينة عبر البُحيرة، وراح في الوقت نفسه يُخطِّط لِلاستيلاء عليها بِمعزلٍ عن الصليبيين،[54] ذلك أنَّهُ توقَّع الغدر منهم وعدم التزامهم بِالاتفاق القاضي بِتسليم كُل المُدُن التي فتحها المُسلمون إلى الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة.[55]
أدرك أفراد حامية المدينة بعد أن شاهدوا السُفُن العسكريَّة البيزنطيَّة في البُحيرة أنَّ الإمبراطور البيزنطي عدَّل سياسته تجاههم وأنَّهُ من دون وُصُول المؤن إلى داخل المدينة عبر البُحيرة سيُعرِّض السُكَّان لِلمجاعة، لِذلك قرَّروا تسليم المدينة إلى الصليبيين، لكنَّ السُكَّان خشوا عُنف هؤلاء إذا دخلوا البلد، وفضَّلوا تسليمها إلى الإمبراطور، وجرت مُفاوضاتٌ بين أفراد الحامية ومُمثلين عنه بِقيادة عمانوئيل بوتوميتس.[56] والحقيقة أنَّ الإمبراطور البيزنطي عمل على تخويف المُسلمين بأن صوَّر لهم مدى وحشيَّة الصليبيين، وبأنَّهم سيقتلون كُل من في المدينة عند سُقُوطها،[55] في حين أنَّهُ هو يعدهم بِحفظ دمائهم وعدم نهب البلد، فوافق المُسلمون على ذلك، ولم تلبث الجُيُوش الصليبيَّة أن فوجئت بعد أسابيع الحصار الخمسة بِالرايات والأعلام البيزنطيَّة ترتفعُ على أبراج المدينة كُلِّها، وبِوُصُول مندوب الإمبراطور البيزنطي لِيُعلن أنَّ المدينة أصبحت روميَّة، وأنَّ الصليبيُّون ممنوعون من دُخُولها (خوفًا من نهبها). وأتمَّ الإمبراطور عهده، فحفظ دماء المُسلمين وسمح لهم بِالخُرُوج من نيقية بِسلام، بل أعلن أنَّهُ على استعدادٍ لِإعادة زوجة قلج أرسلان وأُخته وولديه دون مُقابل.[57] وفي 29 جُمادى الآخرة 490هـ المُوافق فيه 18 حُزيران (يونيو) 1097م، خرج المُسلمون من المدينة،[la 42] فعادت تحت جناح الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة بعد ستَّة عشر سنةً من فتح المُسلمين لها. أثارت حركة الإمبراطور البيزنطي حنق الصليبيين وشعروا بأنَّهم خُدعوا، وغضبوا جدًّا لِلتسامح الذي أبداه مع أهل المدينة، وكانوا يُريدونها عبرةً لِكُلِّ المُدُن، فازدادت الرواسب النفسيَّة السيِّئة بينهم وبين الروم، لكنَّهم لم يستطيعوا فعل شيءٍ بعد أن علموا أنَّهم يتعاملون مع قائدٍ قويٍّ مُحنَّك صاحب خبرة طويلة، ويقود دولةً تضرب جُذُورها في أعماق التاريخ.[57] وعلى الرُغم من هذا، فقد ارتفعت معنويَّات الصليبيين ارتفاعًا كبيرًا، وزالت من نُفُوسهم أزمة سحق حملة الفُقراء بِقيادة بُطرس الناسك، ومن ثُمَّ ظهر تصميم القادة والأُمراء والجُند في غزو ديار الإسلام. كذلك ارتفعت معنويَّات الروم ارتفاعًا ملحوظًا، إذ أنَّ سُقُوط نيقية مثَّل لهم أوَّل ثأرٍ لِكرامة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة بعد هزيمة ملاذكرد النكراء. أمَّا المُسلمون فقد هبطت معنويَّاتهم نظرًا لِأن سُقُوط العاصمة السُلجُوقيَّة، وهي أمنع بلاد آسيا الصُغرى، أنذر بسُهُولة سُقُوط المُدن الأُخرى،[57] الأمر الذي دفع قلج أرسلان إلى إجراء مُفاوضاتٍ مع الأمير الدانشمندي كمشتكين أحمد بن غازي من أجل تجميد خلافاتهما والتعاون لِمواجهة الغزو الصليبي الذي يُهدِّدهما سويًّا.[58]
واقعة ضورليم والاستيلاء على قونية
عدل
المقالة الرئيسة: معركة ضورليم (1097)
رسمٌ بِريشة گوستاڤ دوريه يُصوِّرُ اقتتال المُسلمين والصليبيين عند خرائب ضورليم.
أسفرت المُفاوضات بين السلاجقة والدانشمنديين عن عقد هُدنةٍ بينهما، كما اتحدا لِلتصدِّي لِلزحف الصليبي الذي وصل إلى قبادوقية، وتناسيا مُؤقتًا تنافُسهما بِشأن ملطية. وهكذا اتحد المُسلمون جميعهم في آسيا الصُغرى لِلتصدي لِلصليبيين في سُهُول ضورليم.[58] استأنف الصليبيُّون سيرهم بعد استراحة أُسبُوعٍ على سُقُوط نيقية، عبر فريجيا مُتخذين الطريق الروماني الذي يمُرُّ في ضورليم وفيلوميليوم وقونية وُصُولًا إلى طرسوس، وصحبتهم سريَّة من القُوَّات البيزنطيَّة بِقيادة تاتيكيوس، فتوقَّفوا في قرية «لويكي»، وعقدوا فيها مجلسًا عسكريًّا حدَّدوا خلاله خطَّة الزحف، وتقرَّر تقسيم الجيش الصليبي إلى قسمين لِتسهيل عمليَّة التموين أثناء الزحف، والقضاء على المُقاومة السُلجُوقيَّة في أكبر مساحةٍ مُمكنة.[58][59] تألَّف القسم الأوَّل من الجيش من نورمان جنوبي إيطاليا، وشمالي فرنسا أتباع بوهيموند وتانكرد، وجُنُود روبرت الثاني قُمَّس الفلمنك، وأسطفان قُمَّس بلوة فضلًا عن الأدلَّاء البيزنطيين وقادة بوهيموند. وتألَّف القسم الآخر من جُنُود جنوبي فرنسا ولوثارينجيا أتباع گودفري البويني وريموند الأطرانطي، وجُنُود هيوج الفرماندوي، وقادة ريموند الرابع. وتقرَّر أن يلتقيا في ضورليم بعد أن يسيرا بِشكلٍ مُتوازٍ تفصل بينهما سبعة أميال، وينطلق الواحد منهما قبل الآخر بِيومٍ فقط.[la 43]
تقدَّم الجيش الصليبي بِقسميه إلى منطقة السُهُول التي يسقيها أحد روافد نهر صقارية حيثُ كان المُسلمون يتربصون بهم، ويُعدُّ هذا المكان مُناسبًا لِمُمارسة فُرسانهم تكتيكهم العسكري. فانطلقوا عبر السهل بِخُيُولهم الخفيفة وراحوا يلتفُّون حول القسم الأوَّل من الجيش المُتقدِّم من دون أن يشتبكوا به.[la 44] وفي هذا اللقاء، تعرَّف الصليبيُّون على أولى مظاهر الحضارة الإسلاميَّة التي كانوا يجهلونها ثُمَّ اقتبسوها فيما بعد، وهي المُوسيقى العسكريَّة القويَّة المُثيرة، فقد دُهشوا لمَّا قابلوا جُيُوش السلاجقة ومعها فرقٌ موسيقيَّة تقرع الطُبُول وتنفخ في الأبواق لِإثارة حمية الجُند،[60] فانتاب بعضهم الهلع في بادئ الأمر، وفي ذلك يقول وليم الصوري:[61]
الحملة الصليبية الأولى حِيْنَ أَخَذَ جَيْشُ التُّرْكِ فِي الاقْتِرَابِ تَعَالَت فِي المُعَسْكَرِ ضَجَّةٌ هَائِلَةٌ لَم يَعُد أَحَدٌ يُدرِكُ مَعَهَا أَو يَسْتَبِينَ مِنهَا كَلِمَةٌ مِمَّا يُقَال، فَلَم يَكُن يُسْمَعُ إِلَّا صَلِيْلَ السِّلَاحِ، وَصَهِيلَ الخَيْلِ، وَقَرَعَ الطُّبُولِ ونَفْخُ الأَبْوَاقِ، وَهِتَافَاتِ العَسْكَرِ الحَمَاسِيَّةِ الَّتِي تَعَالَت حَتَّى خُيِّل أَنَّها تَبْلُغُ عَنَانَ السَّمَاءِ. مِمَّا أَوْقَعَ الفَزَعَ فِي قُلُوبِ مَن لَم يَألَفُوا شُهُودَ مِثْلَ هّذَا المَوْقِف الحملة الصليبية الأولى
رسمٌ لِمدينة قونية يعود لِسنة 1891م. دخلها الصليبيُّون بُعيد انتصارهم في ضورليم لِيجدوها خاويةً على عروشها باستثناء بعض أهلها من الأرمن.
حرص الصليبيُّون من جانبهم ألَّا يُفرِّقهم المُسلمون أو يُفاجئونهم بِخوض معركةٍ لم يستعدُّوا لها، لِذلك عسكروا في 27 رجب المُوافق فيه 30 حُزيران (يونيو) قُرب خرائب ضورليم.[la 44] ظهر المُسلمون في صبيحة اليوم التالي، وباشروا فورًا بِتطويق الصليبيين والضغط عليهم. وجرى اشتباكٌ بين الطرفين رجحت فيه الكفَّةُ الإسلاميَّة بدايةً. ودامت المعركة ساعاتٌ عدَّة قبل أن يصل القسم الآخر من الجيش الصليبي ويشترك في القتال. وانسحب قلج أرسلان إلى داخل هضبة الأناضول عندما أدرك أنَّ لا فائدة تُرجى من استمرار القتال.[la 45] بلغت الخسائر في الأرواح عند الطرفين أقل ممَّا توقَّع أيٌّ منهما، وعانى المُسلمون في العشر دقائق الأخيرة عندما حاصر الصليبيُّون جناحهم الأيسر، وأُصيب بوهيموند بِجراح، واستولى الصليبيُّون على المدينة.[62] كان لِمعركة ضورليم تأثيرٌ بالغ السوء على أوضاع السلاجقة، إذ بهزيمتهم خسروا بعض ما كسبوه خِلال أكثر من عشرين سنة مُنذُ واقعة ملاذكرد،[la 46] إلَّا أنَّهم كسبوا احترام الصليبيين وإعجابهم بما تحلُّوا به من شجاعةٍ وبما طبَّقوه من أساليبٍ علميَّةٍ في فُنُون الحرب، بحيثُ قال المُؤرِّخ المجهول صاحب حوليَّة «أعمال الفرنجة وحُجَّاج بيت المقدس» (باللاتينية: Gesta Francorum et aliorum Hierosolimitanorum): «لَوْ كَانَ التُّرْكُ نَصَارَى لِكَانُوا أَشْرَفَ الْأَجْنَاسِ».[63]
بعد أن استراح الصليبيُّون يومين عند ضورليم، واصلوا زحفهم في 4 تمُّوز (يوليو) في الاتجاه الجنوبي الشرقي عبر فريجيا. ويبدو أنَّهم صادفوا كثيرًا من المتاعب في تلك المرحلة بِسبب صُعُوبة الأرض وقلَّة الزاد ونُدرة الماء وارتفاع درجة حرارة الصيف، حتَّى هلكت مُعظم خُيُولهم ودوابهم ولم يجدوا ما يحمل متاعهم وأثقالهم. ومع ذلك استمرَّ الصليبيُّون يُقاسون الأمرَّين في زحفهم حتَّى وصلوا أخيرًا - حوالي مُنتصف شهر آب (أغسطس) 1097م - إلى سُهُول قونية الغنيَّة بِكلئها وشجرها.[64] ولم يرَ الصليبيُّون ما يدُلُّ على أنَّ السلاجقة اعتزموا الدفاع عن قونية، وإنَّما ظهر أنَّ الخطَّة التي وضعها قلج أرسلان عقب الكارثة التي حلَّت بِجُيُوشه في ضورليم، استهدفت الانسحاب إلى الداخل وإخلاء المُدُن أمام الصليبيين. وكان أن دخل الصليبيُّون قونية لِيجدوها خالية الوفاض من الناس والزاد؛ إلَّا من بعض الأرمن الذين قدَّموا النُصح لِلصليبيين بِأخذ كميَّاتٍ كافيةٍ من الماء قبل أن يُقبلوا على اجتياز القفار الواقعة بين قونية وهرقلة. وقد حاول السلاجقة صدّ الصليبيين لآخر مرَّة عند المدينة سالِفة الذِكر، ولكنَّ مُحاولتهم باءت بِالفشل.[64]
حملة البيزنطيين على إيونية وفريجيا
عدل
خريطة تُظهر انكماش دولة سلاجقة الروم إلى قونية والمنطقة المُحيطة بها بُعيد انتصارات الصليبيين والبيزنطيين، وحتَّى سنة 1100م.
تظهر أيضًا توسُّعات الدولة المذكورة خِلال القرنين التاليين وُصولًا إلى سنة 1243م.
كان سُقُوط نيقية ثُمَّ هزيمة قلج أرسلان وجُنُوده في موقعة ضورليم طعنةً قاتلةً لِهيبة السلاجقة ومكانتهم في الأناضول. وكما أنَّ سُقُوط نيقية في أيدي المُسلمين سنة 1081م أدَّى إلى استيلائهم بِسُهُولةٍ على جميع الأجزاء الغربيَّة من الأناضول، فكذلك جاء استيلاء البيزنطيين على هذه المدينة سنة 1097م بدايةً لِاسترداد الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة لِذلك الجُزء الغربي من الأناضول بِرُمَّته.[la 47] وعندما أوغل الصليبيُّون في قلب دولة سلاجقة الروم دون أن يُصادفوا مُقاومةً تُذكر؛ وجد صغار الأُمراء المُسلمين على شاطئ بحر إيجة - مثل أمير سميرنة وأمير أفسس - أنفُسهم مقطوعين عن دولتهم، فلم يستطيعوا المُقاومة طويلًا. ولا شكَّ في أنَّ الإمبراطور ألكسيوس كومنين هو الذي أفاد من تلك الأوضاع، فلم يلبث غداة الاستيلاء على نيقية أن أرسل إلى إيونية جيشًا يقوده صهره يُوحنَّا دوكاس وأُسطُولًا تحت قيادة «كازپاكس». كذلك اختار الإمبراطور البيزنطي - لِكي يفُتَّ في عضُد السلاجقة - أن يُرسل صحبة جيشه السابق مجموعةً من أسرى المُسلمين في نيقية، وبِصفةٍ خاصَّة زوجة قلج أرسلان نفسه. ولم تلبث هذه الخطَّة أن أفلحت وأحرزت نجاحًا كبيرًا، إذ استسلم فورًا أمير سميرنة ثُمَّ تبعه أمير أفسس.[65] وعيَّن دوكاس قائد الأُسطُول «كازپاكس» حاكمًا على سميرنة، لكنَّ أحد الأهالي المُسلمين اغتاله قُبيل أن يستلم مهامه، فثار البحَّارة الروم وأوقعوا بالمُسلمين مذبحةً هائلةً دون أنَّ يتمكَّن دوكاس من منعهم، وحين هدئت ثائرة هؤلاء كانت الجمهرة الإسلاميَّة في المدينة قد أُبيدت عن بُكرة أبيها تقريبًا، فعيَّن دوكاس أحد القادة المدعو «هيالياس» حاكمًا على المدينة، وترك الأُسطول بِكامله لِيحرسها ويضبطها، وسار بِبقيَّة الجيش مُتابعًا تقدُّمه.[la 48][la 49][la 50] أمَّا في أفسس، فقد أسر دوكاس نحو ألفيّ مُسلمٍ من أهلها، ونقلهم إلى جُزُر بحر إيجة، ثُمَّ سيطر على مدينتيّ سارد وفيلادلفية، ومنها انطلق نحو لاذيق التي فتحت أبوابها لِلروم فدخلوها سلمًا.[la 51] وبعد أن نجح القائد البيزنطي في استرداد تلك الجهات حتَّى أنطالية، اتجه صوب الشمال الشرقيّ حيثُ أنزل هزيمةً بِالسلاجقة عند «بلوادين». وفي تلك الأثناء كان الإمبراطور البيزنطي قد أتمَّ السيطرة على بيثينيا التي أخلاها المُسلمون عقب موقعة ضورليم. وهكذا تمَّ لِلبيزنطيين استرداد الجُزء الغربي من الأناضول، ولم يبقَ أمام الإمبراطور ألكسيوس سوى الاتجاه نحو قيليقية والشَّام لِلحاق بِالصليبيين.[65]